عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 31-05-2011, 12:17 AM
osama_mma14 osama_mma14 غير متواجد حالياً
عضو متواصل
 
تاريخ التسجيل: Oct 2008
المشاركات: 867
معدل تقييم المستوى: 17
osama_mma14 is on a distinguished road
افتراضي

القسم الثاني : الاقتصاد في الإسلام كعلم أو مذهب
مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي‏
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية صالحة لكل زمان ومكان.‏
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الاجتماعي فيه يشكل جزءاً لا يتجزأ من المضمون الروحي (إن الله غني عن العالمين("1"، وأن هذه الثورة هي وحيدة من نوعها في التاريخ الإنساني.‏
والوحدانية هي جوهر الإيمان في الإسلام. فهو يحرر الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية ما عدا الله (لا إله إلا الله)، وذلك يعني أنه يرفض كل شكل من أشكال "المعبود"، خلال تعاقب الأزمان. وهذا يقود بالذات إلى تحرير كافة ثروات الطبيعة من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله، وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين في قوله:‏
"إن العبيد هم عبيد الله، وإن الثروات هي ثروات الله".‏
وبذلك، فقد هدم الإسلام كل القيود الشكلية، وكل السدود التاريخية التي كانت تمنع الإنسان من السعي الدائم والحثيث من الاتصال بربه والسعي في الأرض لكسب رزقه، سواءً ما كان منها مصطنعاً تحت تأثير الخوف من قوى أسطورية، أو ما كان منها بشرياً، كظالم أو متجبر أو جماعة صغيرة مسيطرة ومستغلة تراكم الأموال على حساب الشعوب وتحول بينها وبين تأمين مستلزماتها الحياتية، وتفرض عليها علاقات تتصف بالعبودية.‏
من هنا، فقد ناضل النبي في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان، نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والاستغلال والعبودية. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل لكل شكل من أشكال العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من الخارج. وقد لقب التحرير الأول: "الجهاد الأكبر"، والتحرير الثاني: "الكفاح الأصغر"، بمعنى أن الأخير لا يتسنى له أن ينجح ويحقق هدفه إلا في إطار الأول. ويستنتج من ذلك:‏
1- أن الثورة لا تسمح بأن يحل مستغل محل مستغل آخر، ولا أي شكل من الظلم محل شكل آخر، ذلك أنه في الوقت نفسه الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، فقد حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.‏
ولذلك، فالثورة في المفهوم الإسلامي تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل الطبقة الرأسمالية، أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره وتحرير الإنسان من كل شكل منافٍ للعدالة الإنسانية من الخارج ومن داخل نفسه بالذات (إن النفس لأمارة بالسوء...("2"‏
2- إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل كفاح الطبقات، كما هو الحال في كثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ، حيث أنها ثورة إنسانية هدفها تحرير كل إنسان، من أية طبقة كان، وتحريره من شيطانه في الداخل أولاً. فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً..! ولذا، فقد سمى النبي الكريم هذا الكفاح "الكفاح الأكبر".‏
وبفضل هذا الكفاح استطاع الإسلام أن يحقق مطالب الكفاح الأصغر، بحيث أيقظ في كافة النفوس مكامنها الخيرة والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، وقضى على جذور السيئات في أعماقها.‏
إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، في "الكفاح الأكبر"، ليس بذلك الإنسان المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج، ووسائل السيطرة والنفوذ في الأرض، فيلجأ إلى اقتناصها من أيدي المالكين الأصليين واقتنائها في حوزته، حاسباً بأن انتماءه إلى طبقة المستغلين هو الذي يحدد مكانه في النضال الاجتماعي. إن الثوري الذي يسير في خط الأنبياء، هو ذلك الإنسان الذي يستمد قيمته من جهوده التي يبذلها بالتقرب من الله عن طريق نفعه لعباده "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده"، واتصافه بكافة القيم الإنسانية، والذي يضارع بضراوة كل أشكال الاستغلال التي يعتبرها اختلاساً للقيم الإنسانية، والانحراف بها عن مسيرها الحقيقي وتحقيق أهدافها الكبرى، نحو إلهائها بالتفتيش عن الغنى والإثراء الفاحش بشتى الوسائل.‏
إن ما يحدد هذا الوصف الثوري الذي يتبع خط الأنبياء هو درجة نجاحه في الكفاح الأكبر، وليس وضعه الاجتماعي، ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.‏
وسنتناول عناصر البحث في الاقتصاد الإسلامي، على منوال البحث في النظامين الماركسي والرأسمالي، بمحاولة الفصل إلى علم ومذهب، علماً بأن الإسلام لا يدعي لاقتصاده بصفة العلم. وقد سبق أن نفينا أيضاً صفة العلم عن كل من النظامين الاقتصاديين السابقين.‏
آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم‏
إن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أي أساس عقائدي معين أو أية نظرة إلى الحياة والكون سوى النفع المادي، كالمذهب الرأسمالي. وقد أثبتنا فيما سبق أنهما لا يملكان بالفعل صفة العلم.‏
وبمعنى آخر، فالاقتصاد الإسلامي ليس علماً مصطنعاً لقوانين يعتبرها طبيعية، وهي -في الواقع- غير طبيعية (الماركسية)، ولا كعلم الاقتصاد السياسي الذي يراقب ويحسب ليقدم التفاسير والتعليلات التي لا طائل تحتها (فالتعديلات التي تطرأ عليه كل عام تتجاوز الأسس الثابتة، وتذخر بالتناقضات).‏
فالاقتصاد الإسلامي -كما ذكرنا- هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى سليم. إنه ثورة من داخل النفس على النفس الأمارة بالسوء لكي تصبح كريمة سخية عادلة جديرة بصفة الإنسان. إنه تغيير الواقع، لا وصف وتفسير له. كما أنه ليس علماً افتراضياً مرسوماً في أروقة المكاتب، والذي جاءت نتائجه خاطئة وبعيدة جداً عن الواقع.‏
وما لنا وكلمة العلم في هذا المجال. فلم يسبق في تاريخ الحضارات التليدة التي تعاقبت على الكون، في عظمتها وجلالها وسموها وعبقريتها، أن ادعت حضارة أن اقتصادياتها كانت تقوم على العلم، أو أنها ابتدعت نظريات علمية اقتصادية، خاصة وقد ثبت لنا أن الاقتصاد العلمي، بشقيه الشرقي والغربي، لاقى فشلاً ذريعاً في نظرياته خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن، بينما استمر الإسلام ينشر رايته الخيرة، ويسبغ السعادة والرفاهية على الشعوب كافة مدة قرون عديدة. فما هي الأسس التي بني عليها المذهب الاقتصادي في الإسلام.‏
ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب‏
الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:‏
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:‏
1- مبدأ الملكية المزدوجة‏
2- مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود‏
3- مبدأ العدالة الاجتماعية.‏
1- مبدأ الملكية المزدوجة‏
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.‏
فالرأسمالية تؤمن بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا تعترف بالملكية العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية القصوى.‏
والاشتراكية، على العكس من ذلك، تعتبر فيها الملكية الاشتراكية أو ملكية الدولة بمثابة المبدأ العام الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد.‏
أما الإسلام، فيقر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد. فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل شكل من هذه الأشكال حقلاً خاصاً تعمل فيه. دون أن يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.‏
ولهذا، كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن سمح بالملكية الخاصة، لأن الملكية الخاصة بالنسبة إليه ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.‏
وكذلك من الخطأ أن يعتبر مزجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الرأسمالية.‏
فتحديد نوع الملكية يمكن أن يستوحى من الطبيعة ذاتها للثروات الطبيعية:‏
فالملكية العامة، كمنابع، المياه، والأحراش، والمراعي ومصادر الطاقة، والثروات المعدنية عموماً هي، كالشمس والهواء ملك لكل ما خلق الله على وجه الأرض.‏
فهي ملكية مشتركة منع الإسلام الفرد من الاختصاص بها، وفرض ألا يتملك منها إلا بقدر حاجته.‏
وحتى المعامل التي تقوم باستثمار هذه الثروات يجب أن تكون مشتركة لأن الإنتاج من حق المجموعة. فإذا ملك فرد مصنعاً لاستخراج هذه الثروات، فهذا يعني أنه سيستخرج منها أكثر من حقه فيها، أي ما هو حق لمجموع أفراد المجتمع.‏
ولذا، فعلى الجماعة الممثلة بالدولة أن تتولى تنظيم استخراج هذه المواد وتوزيعها على المجموع لأن الفرد سيلجأ إلى بيعها للناس وهذا لا يجوز لأنها من حقهم على الدولة.‏
نظرة الإسلام العامة إلى الأرض‏
تقسم الأرض إلى قسمين:‏
- الأرض العامرة طبيعياً: وهي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة وما إلى ذلك.‏
- الأرض الميتة: وهي التي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط.‏
فالأرض العامرة هي ملك للدولة، وكذلك بالنسبة للأرض الميتة، أي ذات طابع عام للملكية. إلا أن إحياء الأرض الميتة، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، يمنح هذا الفرد الحق بالانتفاع بالأرض، ما دام عمله مستمراً في الأرض، فإذا استهلك عمله، أو توقف عن استثمارها سقط حقه فيها. أي أن العمل في الأرض ليس سبباً لتملك الفرد رقبة الأرض وإنما سبباً لحقه في الانتفاع فيها فقط. ويسمح الإسلام من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة عليه لتساهم الإنسانية كلها في الاستفادة من الأرض، التي هي -في الأصل- ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد، إنها هبة من الله تعالى للإنسانية جمعاء وكافة الكائنات الحية على وجه الأرض.‏
المواد الأولية:‏
تأتي المواد الأولية بعد الأرض مباشرة في الأهمية. فكل ما يتمتع به الإنسان من سلع وطيبات مادية مردها إلى الأرض. وما تذخر به من مواد وثروات معدنية.‏
ويقسم الفقهاء المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.‏
فالمعادن الظاهرة: هي التي لا تحتاج إلى مزيد من العمل لإجلاء جوهرها، كالملح والنفط مثلاً. أي المعدن الذي تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواءً احتاج الإنسان إلى حفر وجهد للوصول إلى آباره في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (أي كله من عطاء الله، عدا استخراجه)‏
وأما المعادن الباطنة: فهي كل معدن احتاج في إبراز خصائص المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (أي يحتاج إلى جهد زائد من البشر)‏
والرأي الفقهي السائد أن المعادن الظاهرة تعتبر من المشتركات العامة بين كل الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، ولأنها مندرجة ضمن الملكيات العامة. ويسمح للأفراد بالحصول منها على قدر حاجتهم، دون أن يستأثروا بها أو يتملكوا ينابيعها.‏
وعلى هذا، يصبح للدولة وحدها الحق في أن تستثمرها، بقدر ما تتطلبه الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانيات، وتضع ثمارها في خدمة الناس.‏
أما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعدن، فتمنعها منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض، فليس له الحق في تملك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكية العامة.‏
وأما المعادن الباطنة: إنها في الرأي الفقهي السائد من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها في الأرض إلا بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عامودياً وشاقولياً، حسب الرأي السائد فقهياً. وإن كان هناك اختلافات كثيرة بين الفقهاء في هذا الصدد*‏
ويواجه الفرد، منذ البدء في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجز المعدن وقطع المعدن، وجمد الثروة المعدنية. ويكون بذلك حكمه حكم الأرض إذا توقف عن إحيائها.‏
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات، لأنها ملك الناس قاطبة. وهكذا، فإن الإسلام قد سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود عديدة.‏
2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود‏
ويتجلى هذا المبدأ في الاقتصاد الإسلامي بالسماح للأفراد بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية والطبيعية التي يؤمن فيها الإسلام، والتي تؤمن استفادة جميع خلق الله من الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها عليهم.‏
وهنا نجد الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي (لا أخلاق في الاقتصاد والمال) (الغاية تبرر الواسطة)، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع (عدا رجال الحزب)، يسمح الإسلام للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل العليا التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية جمعاء.‏
والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:‏
الأول : التحديد الذاتي، الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.‏
والثاني: التحديد الموضوعي، والذي يأتي من قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه.‏
فالتحديد الذاتي، يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كافة مرافق حياته.‏
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي مما برهن على كفاءة الإنسان لخلافة الأرض عن الله سبحانه وتعالى، وصنع عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرحمة، واجتث من النفس البشرية عناصر الشر. ودوافع الظلم والفساد.‏
ويكفي من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة مدة قرون عديدة. فما زال ملايين المسلمين يقدمون بملء حريتهم على دفع الزكاة والضمان الاجتماعي وغيرها من حقوق الله سراً وجهراً حتى الآن. وقد ثبت أنها أشد مضاءً من التحديد الخارجي.‏
أما التحديد الخارجي، فهو التحديد الذي يفرض على المجتمع الإسلامي من الخارج، بقوة الشرع. ويقوم على المبدأ القائل: "لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها ".‏
ويتم تنفيذ هذا المبدأ عن طريق النصوص التي تنص الشريعة على منع بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وإشراف ولي الأمر على تنفيذها بصفته سلطة مراقبة وموجهة مستمدة من القرآن: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(.(سورة النساء- الآية 59)"3"‏
ولذا، فالحرية في الإسلام، ليست حيوانية مستهترة متعالية مستكبرة، إنها محدودة في إطار اجتماعي إنساني يضمن مستوى مناسباً من المعيشة لجميع أفراد المجتمع، بحيث لا تكون هذه الحرية على حساب فقدان الآخرين عملياً وواقعياً قدرتهم على التحرك ليسعوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، كما تفعل الشركات العالمية في الوقت الحاضر في ظل نظام العولمة.‏
وبهذا، فقد حدد الإسلام الملكية الخاصة في حيازة الثروة، ولم يطلقها كما في النظام الرأسمالي دون قيود قانونية أو أخلاقية مما يؤدي إلى اضطراب في توزيع الثروة العامة وخلق الفروق الطبقية.‏
إلا أنه لم يصادرها كليةً كالنظام الاشتراكي، فمصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان، ذلك أن حيازة الأشياء مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهي متأصلة في الإنسان، ولا يمكن تجاهلها. فمن طبيعة الإنسان السعي لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل، وفقد الإنسان القدرة على الإبداع وإعمار الأرض والسعي فيها كما أمره الله. كما أنه لم يطلق يد المالك في ملكيته ولا في الطريقة التي يحصل عليها.‏
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:‏
إن الدين الإسلامي- في الحقيقة- هو دين يسر، وليس بدين عسر، أي أنه لم يشدد على البشر في الواجبات والمحرمات، بل ينطلق في شرائعه من مصلحة الفرد والمجتمع معاً. وحتى في العبادات نفسها، وطرق تأديتها تتجلى مصلحة الفرد والمجتمع بأجلى مظاهرها فـ(إنّ الله غني عن العالمين("4".وما يهمنا في هذا البحث منها ما له صلة بالنواحي الاقتصادية والمعيشية، أي ما له علاقة بحقوق الإنسان في الحياة: وقبل كل شيء، فقد كرم الإسلام الإنسان ذاته كإنسان في جميع مراحل حياته: كرمه كبويضه منع إتلافها، وجنيناً منع إجهاضه، بل وحض على إكثاره وتبجيلهالمال والبنون زينة الحياة‏
الدنيا(*"5" ، وكرمه أماً: "الجنة تحت أقدام الأمهات "، وكرمه امرأة وزوجة، وكرمه شيخاً عجوزاً وعاجزاً فقيراً.. الخ وذلك، بشكل لم يسبق لأية شريعة من الشرائع الدينية أو الدنيوية أن وصلت إليه، حتى توّجه أخيراً بجعله "خليفة الله في الأرض"..( وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة("6"‏
ولذا فقد حض الإسلام، أول ما حض، على تنمية الإنتاج وربطها بالتوزيع. وقد تكون تنمية الإنتاج النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي للاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.‏
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب. كما أنها ترفض مالا يتفق مع إطارها المذهبي. فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب مالا يتفق مع نظرياته في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع، أي أن لكل شكل من الإنتاج نوع خاص من التوزيع، ولا بد لتكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج، عكس الإسلام الذي يحدد الإنتاج لحساب التوزيع.‏
فالإسلام يريد من الإنسان المسلم أن ينمي الثروة ليسيطر عليها وينتفع منها في تحسين وجوده ككل، لا لتسيطر عليه، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى. فالثروة وأساليب التنمية تهدف ضمن الشرائع الإلهية إلى تأكيد صلة الإنسان بربه المنعم عليه، وتهيِّئ له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام مواهبه وطاقاته للنمو والتكامل، وتساعده على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة.‏
والإسلام، على العكس من الرأسمالية التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن توزيعها، فهو يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء. فليست تنمية الإنتاج للإنتاج ذاته كهدف وإنما كطريق للتوزيع وسعادة البشرية. فإن لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الإنسان. وفي هذه الحالة فالله ينتزعها منهم: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء("7" فالتنمية في الإسلام إذاً ليست كما في النظام الرأسمالي، بزيادة دخل المنتج بنسبة كذا، ولو كان ذلك على حساب تسريح العمال، وزيادة معدل البطالة، وسرقة حقوق العاملين، ولا لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية وتنميتها ولا لمضاربيها ومرابيها على كافة المستويات..‏
2-ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيلة سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل. فالربوي الرأسمالي يقوم بامتصاص أموال المقترضين دون أن يؤدي أي عمل إنتاجي.‏
والبديل في الإسلام هو توظيف هذا المال في مشروعات إنتاجية تؤمن خلق فرص عمل جديدة وزيادة في الإنتاج يتقاسم ريعه العاملون، وأصحاب الأموال، وغير العاملين من المحتاجين، وهو أكثر ضماناً، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما يجري حالياً نتيجة للمضاربات والإفلاسات لكبار المصارف وبيوت المال في العالم الصناعي وما يدور في فلكه.‏
وتعتبر الفائدة في العرف الرأسمالي بمثابة أجر رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها. وتحدد بنسبة مئوية من المال المسلف. ولا تختلف كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات، وأدوات الإنتاج، نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات.‏
أما الإسلام، فقد سمح للكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج وحرم أجر رأس المال، وما ذلك إلا للأسباب التالية:‏
-فالقاعدة التي تجتمع عليها كافة التشريعات هي: أن الكسب لا يقوم إلا على أساس عمل، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرر لكسبه. فالكسب الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج مسموح به نظراً لما تخزنه الآلة من عمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الآلة في عملية الإنتاج التي يباشرها. أما الكسب الناتج عن ملكية رأس المال النقدي (الفائدة) فليس له ما يبرره نظرياً، لأن المستقرض سوف يرد المبلغ للدائن بكامله دون أن يستهلك منه شيئاً.‏
وكذلك الحال بالنسبة لاستئجار العقار، فالمستأجر يستأجر عملاً سابقا سوف يستهلك المستأجر قسماً منه حين الانتفاع به.‏
وتبرر الرأسمالية الفائدة بصفتها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً في تكوين القيمة. فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل.‏
إلا أنه إن كان صحيحاً أن العملات الضعيفة في البلدان الفقيرة المستدينة تنخفض قيمتها باستمرار، كما تنخفض معها- في الوقت نفسه- قيمة موادها الأولية، فإن العملات في البلدان الغنية الدائنة، هي في ارتفاع مستمر كما ترتفع معها قيمة بضائعها باستمرار. ولنتصور حجم الخسائر الباهظة والمضاعفة التي تتكبدها البلدان الضعيفة المدينة:‏
-التسديد لخدمة الدين* بعملات مرتفعة باستمرار، من عملات وبضائع محلية منخفضة باستمرار.‏
-زيادة الفوائد المتصاعدة باستمرار لتبلغ أضعاف حجم الدين ذاته‏
-خسارة المشاريع التي تمولها، أو شللها من قبل الدائنين بالذات لكونها تنافس بضائعهم بالذات، أو توقفها عن العمل لعدم وجود أسواق لمنتجاتها في الخارج، وعدم قدرة الأسواق الداخلية على امتصاصها لضعف الدخول.‏
وكذلك، فمن وجهة نظر الإسلام، ليس للرأسمالي الحق بالفائدة على القرض، حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل، لأن توزيع الثروة في الإسلام يتطلب إنفاق عمل مباشر أو مختزن، ويرتبط بمفاهيم الإسلام المذهبية وتصوراته عن العدالة.‏
وتعتبر الرأسمالية المخاطرة بالمال مبرراً لحق الرأسمالي بالفائدة، فهي بذلك تحرمه من الانتفاع بالمال المسلف- حسب رأيها- كما أنها بمثابة مكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرٍ يتقاضاه الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجر الذي يحصل عليه مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.‏
والإسلام يعارض ذلك، لأنه لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلا على أساس إنفاق عمل مباشر أو مختزن -كما ذكرنا- وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع إليه أجره، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي دون أن يستهلك منه شيئاً.‏
3-وكذلك، فقد حرم الإسلام كنز المال:‏
الآية: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم("8".‏
والهدف الاقتصادي في هذا التحريم يكمن في أن كنز المال يعني انخفاض كمية الثروة المنتجة، ومن ثم تقليص فرص العمل، وحصول البطالة، مما يزيد الفروقات الاجتماعية وحالات البؤس وشظف العيش.‏
وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز (بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول) وتشجع عليه بتشريع نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها".‏
ومن مضار كنز المال الاقتصادية أيضا، أن تجميع الثروات الكبيرة في أيدي الأفراد دون استثمارها، يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب. وهذا يؤدي بدوره، إلى عجز هذه الطبقة عن استهلاك ما يشبع حاجتها من السلع، فتتكدس المنتجات دون تصريف، ويسيطر الكساد * على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:‏
انخفاض الاستهلاك = كساد= توقف عن الإنتاج= زيادة بطالة= مجاعة‏
4-وحرم الإسلام المخاطرة:‏
كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، وإنما يرتكز على أساس المخاطرة، مما يعرض الفرد وعائلته إلى الإفلاس والضياع، ويعود على المجتمع بالانحلال. والإنفاق فيما حرم الله، كالخمر ولحم والخنزير. وقد تبين ضررهما الشديد في الوقت الحاضر نظراً للأمراض الخطيرة التي نتجت عنهما. وتشن السلطات في البلدان الغربية حرباً إعلامية واسعة النطاق للحد من تعاطي الخمر لصلته الوثيقة بأمراض الشرايين، وتشمع الكبد، بالإضافة إلى ضحايا الطرق، التي تشكل القسم الأكبر من الوفيات كل عام.‏
5-ونهى -في الوقت نفسه- عن الإسراف والتقتير.‏
الآية: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ً("9"‏
وجعل المبذر بمثابة السفيه الذي يجب أن يحجر عليه.‏
والغاية من ذلك، إن في تبديد الثروة وتقتيرها، منع باقي عباد الله من الاستفادة منها.‏
ومنع إنتاج المواد ذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، وكذلك المصاريف غير المنتجة التي تصرف على المظاهر والاحتفالات لأن المحرومين من وسائل عيشهم أحق فيها. ويكفي أن نعلم حجم مليارات الدولارات التي تنفق حالياً على ألعاب الكرة وحدها في العالم كل عام، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع، لنعلم فقط زاوية واحدة من زوايا التكاليف الباهظة المبددة للثروة التي تمتص موارد البشرية جمعاء*.‏
6-وحذر من الوقوع في أخطار التبعية الاقتصادية للغير.‏
وهي في الواقع من أولى خصائص التخلف الاقتصادي في العالم الثالث:‏
"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع".‏
ومن المعلوم أن التبعية الاقتصادية في هذه البلدان تصل إلى ما يزيد على 90% في غذائهم وكسائهم وإنتاجهم وأدوات إنتاجهم.. الخ، بينما لا يتجاوز في البلدان الصناعية 20% ويبدو خطرها أشد ما يبدو من الناحية الغذائية:‏
فسلاح الغذاء، أشد مضاءً من كافة الأسلحة، وأنه كان وراء انهيار الاتحاد السوفياتي -كما رأينا- إذ لم تتردد أمريكا في استعماله في الماضي والحاضر، ومن أخطاره أيضاً أن يمنع من وصول المواد الغذائية عوائق طبيعية من زلازل وأعاصير، أو فيضانات، أو جفاف.. الخ تقضي على المزروعات في البلد المصدر نفسه أو حتى الحروب، (وما أكثرها!).‏
كما أن الاعتماد على الغير في تغذية الشعوب يخشى معه تعريضها إلى أخطار صحية عن قصد أو غير قصد، من جراء استيراد مواد فاسدة، أو سامه، أو مشبعة بالهرمونات.. الخ، كما يحصل من وقت لآخر، مثال: لحوم البقر البريطانية المجنونة، والدجاج البلجيكيه، والألبان ومشتقاتها، والزيوت الإسبانية، مما تطالعنا به الأخبار كل يوم..‏
7-وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي:‏
حرصاً منه على تنمية الإنتاج وزيادة الثروة. فنهى عن بيع العقار وتبديد ثمنه في الاستهلاك، وحض، حتى في الصدقات على تقديم ما يساعد الفقير على الإنتاج ليأكل من ثماره، على العكس من النظام الرأسمالي- كما رأينا- والذي رفع شعار المجتمع الاستهلاكي ليشجع الإنتاج، فقضى عن الإنتاج والمستهلكين بالذات..‏
8-ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض وإفساد الطبيعة:‏
الآية: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون("10" (الروم-41).‏
والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة والانهيارات وعدم التوازن الذي طال المرافق الطبيعية بكافة أشكالها نتيجة التعرض للقوانين الطبيعية بغية التحكم فيها وتعديلها وتعليمها دروسها. فهي إذاً نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته ومن المعلوم أن التلوث هو ابن هذه الحضارة الحديثة واكتشاف الطاقة، والإنتاج على مستوى عالمي لغزو العالم في كافة أصقاعه* وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يمتنعون عن ذلك.‏
9-وحض على ضرورة التوازن في الطبيعة مراعاة لقوانينها:‏
الآيةوالأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش، ومن لستم لـه برازقين،وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم("11"(الحجر19-20-21).‏
وكلنا يعلم أن التنافس على الثروة في الاقتصاد الرأسمالي، ونضح الموارد الطبيعية ببرها، وبحرها، وسمائها ومائها، قد أنهك هذه الأرض، وأربك توازنها** فالهزات المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والحر والقر، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والأعاصير والعواصف، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، ولا يكاد يمر يوم واحد دون حصول هذه النكبات.‏
10-ولذا فقد وضع الإسلام ضوابطَ للتصرف في الحرية، وفي حق الإنسان في التصرف بملكيته الخاصة "فلا ضرر، ولا ضرار.."‏
ومن الأمثلة على سوء التصرف بالملكية الخاصة وانعكاسه على أضرار الغير والمجتمع بما فيه المالك نفسه، المثال التالي:‏
"ركب قوم في سفينة، فاقتسموا.. فاختص كل منهم بمكان.. فأخذ أحدهم ينقر مكانه بفأس.. فقالوا له ماذا تفعل؟! قال: هذا مكاني أفعل به ما شئت.. فإن أخذوا على يده (أي منعوه) نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا..!"‏
وهكذا، فإن المنع من التصرف المطلق بالملك الخاص، يكون ضمن مصلحة الفرد والمجتمع بآن واحد.‏
فالإسلام إذاً، يؤمن بالملكية الخاصة ضمن حدود، وهي من حق جميع أفراد الشعب وطبقاته وأديانه دون أي تمييز، إلى جانب الملكية العامة وملكية الدولة. وقد برهن الواقع من التجربتين: الاشتراكية والرأسمالية على خطأ الفكرة المعتمدة على شكل واحد للملكية. وما انهيار النظام الاشتراكي إلا نتيجة الاعتداء على الملكية الخاصة، ونسف طبقة كانت تعمل وتنتج وتغذي الخزانة، واستبدالها بطبقة أخرى، تبين أنها أشد من الأولى استغلالاً وظلماً، دون أن تكون لديها ذات المؤهلات للإنتاج، ولا حتى ذات الدوافع لتنمية الثروة وتغذية الخزينة، اللهم إلا دوافعها الخاصة، وما الانفجارات والأزمات في النظام الرأسمالي إلا نتيجة لإطلاق حرية الملكية من عقالها، دون حدود أو قيود، لدرجة أصبحت موارد الكرة الأرضية برمتها بأيدي فئة ضئيلة من البشر، نادراً ما سجل التاريخ مثيلاً لها في الطمع والجشع والظلم والاستهتار، لا وطن لها، ولا دين، ولا حافز ولا هدف إلا جمع المال بأية طريقة كانت "فالغاية تبرر الواسطة" والاستئثار بحقوق البشرية جمعاء، مما لم يعد يدع أي مجال لتطبيق العدالة الاجتماعية الركيزة الأساسية للإسلام، حتى في بلاد الإسلام بالذات دون تحرير الموارد الطبيعية من أيديها.‏
3-العدالة الاجتماعية في الإسلام‏
مقدمة: كل ما تقدم، من شمول الملكية العامة في الإسلام للقسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وانحصار الملكية الخاصة ضمن حدود ضيقة تضمن مصلحة المجتمع، يقودنا إلى عمق العدالة الاجتماعية في الإسلام، أي حق جميع أفراد المجتمع، العاملين منهم، والمحرومين من العمل وغير القادرين على العمل، الفقراء والمحتاجين، وكل من يعيش على وجه الأرض بالحياة اللائقة الكريمة، وحقهم في اقتسام موارد الطبيعة وخيراتها التي خلقها الله للناس أجمعين.‏
ولتأمين ذلك، أوجب الإسلام على الحاكم، الذي يملك -في الواقع- التصرف بالملكية العامة، أن يؤمن العمل ويسهله لجميع القادرين على العمل في حدود صلاحيته، ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم من موارد الملكية العامة وملكية الدولة كما فرض الإسلام على العاملين الذين يستفيدون من استغلال ثروات الله أن يؤدوا لهم نصيبهم من هذه الثروات، أي أن يكفلوا الحياة الكريمة لغير العاملين والفقراء والمحتاجين.. الخ وهي فريضة الزكاة التي:‏
-تضمن حق المحرومين من ثروات الله.‏
-وتحول دون احتكار الأقوياء للثروة.‏
-وتمد الدولة بالنفقات اللازمة لممارسة واجبها بتحقيق الضمان الاجتماعي.‏
فالضمان الاجتماعي في الإسلام يرتكز إذاً على أساسين:‏
-التكافل العام بين أفراد المجتمع.‏
-حق الجماعة على الدولة في الموارد العامة وتأمين العيش الكريم.‏
ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها.‏
فالأساس الأول للضمان، لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يفرض الثاني إشباع الحاجات الكمالية أيضاً، لتصل بالفرد إلى مستوى الغنى. وفي كلا الضمانين تبدو عظمة الإسلام في تحقيق الحرية الجوهرية، وليس فقط الشكلية، عكس الحرية التي يقدمها المبدأ الرأسمالي كما مر معنا.‏
التكافل العام. وهو الأساس الأول للضمان الاجتماعي.‏
الحديث و الآية:" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه("12".‏
إنه المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام كفاية" على المسلمين، ضمان بعضهم بعضاً في إشباع الحاجات الحياتية الضرورية للفرد، وفي حدود ظروف المسلم وإمكانياته، عن طريق الزكاة التي اعتبرها حقاً لهم، وليست مجرد هبة أو صدقة.‏
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "إن الله عز وجل فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل، ولكن من منع من منعهم حقهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لعاش الجميع بخير".‏
أي أن منع الناس من ممارسة حقهم، هو السبب في الفقر. وأن الثروة المنتجة من قبل الأفراد تشكل حجماً كبيراً يتجاوز حق المنتجين وحدهم، ويمتد إلى أصحاب الحق من المحرومين من العمل والإنتاج.‏
والمكلف في الإسلام لا يكمن في طائفة أو حزب أو دين، وإنما في أبناء المجتمع جميعاً "فالخلافة عامة". وهي الوجه الاجتماعي للعدالة الاجتماعية الإلهية التي نادى بها الأنبياء كافة. وإذا ما كانت "الوحدانية" تعني اجتماعياً أن "المالك هو الإله الواحد" فإن العدالة" تعني أن هذه الملكية التي يختص بها الله لا تسمح باعتبارها عادلة بتفضيل فرد على آخر، ولا تعطي الحق لفئة اجتماعية على حساب فئة أخرى، ولكن تمنح الخلافة للمجموعة بكاملها.‏
وإن كان يحق للدولة أن تمارس حقها في إلزام المكلفين على دفع الزكاة، وامتثال ما يكلفون به بموجب الشرع، إلا أن الإسلام يهتم، لتحقيق أهدافه بالعامل النفسي، أكثر من اهتمامه باستعمال القوة والزجر. أي أنه يلجأ إلى الطريقة الإنسانية، والمفاهيم السامية التي أعطاها للحياة، عن طريق البث في المجموعة المكلفة عنه المشاعر النبيلة التي توجهها لتحقيق الأهداف.‏
وكلنا يعلم، أن المجتمعات الجاهلية كانت -شأنها شأن المجتمعات المسماة بالمتطورة الآن" لا تنظر للحياة إلا من خلال مرحلتها العابرة التي تنتهي بالموت، ولا تحقق ذاتها وسعادتها إلا بإشباع الغرائز والشهوات الحياتية. ولذا، فإن جمع المال لذاته وتكديسه والتنافس عليه، هو بالنسبة إليها الهدف الطبيعي الذي بموجبه يتمكن الإنسان أن يملأ حياته بالعظمة، وينتهي بها - من الناحية الكمية والمعنوية- على الوجه الذي يؤمن له الخلود على الأرض.‏
هذا المفهوم الذي تعطيه المجتمعات المادية للحياة، والدور الذي تنيطه بالمال، هما أسباب الجهود التي تبذلها لزيادة الدخل والغنى. كما أنها خلف كل تناقض، وكل نمط من أشكال الاستغلال.‏
ولكي يحرر الإسلام الإنسان من هذا المفهوم، ويقتله من قرارة نفسه، رفض أن يعطي للمال أية قيمة لذاته، ونهى عن تكديسه، ومحا عنه كل قوة تؤمن له الخلود والعظمة.‏
وهنا يبدو دور الدين وأثره في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة. فالدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يدعها في حياته على الأرض، أملاً في النعيم الدائم، وتخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة، أرفع من المفاهيم التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لصالح المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع.‏
الآية: ( من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها("13".‏
ولذا، فقد جعل الإسلام الفرائض المالية (التكافل) بمثابة العبادات الشرعية التي تنبع من دافع نفسي، طلباً لرضاء الله، والقرب منه.‏
فالدين إذاً، هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة* بالترغيب تارة، والوعيد أخرى.‏
آ-عن طريق الترغيب:‏
فالإسلام -بصورة عامة- لا يرغم أحداً بالقوة على تنفيذ تعاليمه: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي("14".‏
وعن طريق الترغيب، يقدم القرآن صوراً رائعة للربط بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية.‏
الآيات: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره("15".‏
( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون("16" لقد حل الإسلام -في الواقع- قيمة العمل الصالح محل قيمة المال والغنى للخلود، وحض على التنافس فقط سعياً لهذا الهدف. فمنح الإنسان الطمأنينة الحقيقية بأن خلوده لا يتحقق بتكديس الثروة، ولا باكتناز الأموال، وإنما بمقدار ما يقوم به من عمل صالح. فغير بذلك مفهوم الاستثمار: فبدلاً من اعتباره مبدداً لثروته ومقلصاً لنفوذه وخطراً على مستقبله وخلوده، جعل منه -على العكس- ضماناً لخلوده، وكعطاء بمقابل يزيد على عشر أضعافه.‏
الآيات: (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم("17".‏
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم("18".‏
فحياة الإنسان على الأرض إذاً، هي بمثابة الاختبار الذي يجتازه الإنسان أمام الخالق، فمن اجتازه بنجاح كان جديراً بالخلود، ومن يفشل كان بمثابة العدم.‏
الآية: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً("19" (115-المؤمنون) أي أن الإنسان ليس بعابر سبيل أتى إلى هذه الأرض ليأكل ويشرب وينهب حياة الآخرين ويكدس الأموال ثم يموت..(وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده("20" أي يعيده بالعاملين الذين نجحوا في الاختبار على الأرض.‏
والآيات التي تعدد انحراف الإنسان عن الغاية من خلقه كمكلف باستثمار خيرات الأرض، وحسن توزيع خيراتها لا تحصى، وهي تلفت النظر إلى انحراف الإنسان عن الهدف الذي كلفه به ربه من ناحيتين:‏
أولاً: امتناعه عن استثمار الخيرات بذاته، والتوقف بذلك عن الإبداع والابتكار.‏
ثانياً: امتناعه عن القيام بتوزيع ما يفيض عليه من الخيرات على المحتاجين، سواءًأَ كان المستغل فرداً، أو جماعة أو دولة..‏
ب-عن طريق الترهيب. وهو نادر جداً في القرآن، كما ذكرنا‏
الآية: (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده، يحسب أن ماله أخلده، كلا لينبذن في الحطمه، وما أدراك ما الحطمه، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمدٍ ممدده("21".‏
ففي هذه الآية، يهدد الله الإنسان الذي يكسب المال عن طريق الاستغلال والقوة (الهمزة واللمزة) والذي يجمعه لذاته ويجعل تكديسه الهدف منه (الذي جمع مالاً وعدده) والذي يعتبر هذا المال مخلداً له في الحياة (يحسب أن ماله أخلده)، يتوعده بجهنم (الحطمة)*‏
وفي حديث، أن الإمام جعفر الصادق قال: "أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار".‏
وينتج عن ذلك: أن الكفاية هي في حدود الحاجات الشديدة، وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، والحياة عسيرة بدون إشباعها.‏
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي‏
واجب الدولة :‏
"الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"‏
لقد أوجب الإسلام على الدولة رعاية شؤون الناس من وجوهها المختلفة، وأناط بها المسؤولية المباشرة في الالتزامات التالية:‏
- تنفيذ مبدأ التكافل العام‏
- تطبيق المباحات والمحرمات -سبق ذكرها-‏
- توجيه الموارد لحاجات المجتمع على أساس الحق العام للجميع في الاستفادة من ثروات الطبيعة.‏
-تأمين العمل لمن ليس له عمل.‏
تأمين التوازن الاجتماعي: بكفاية الحاجات المعيشية إلى درجة الغنى حتى للعاملين.‏
-بتأمين الحاجات الضرورية والكمالية أيضاً لغير العاملين والمحتاجين.‏
-وتأمين التوازن الاجتماعي بتطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية‏
-ملء منطقة الفراغ من التشريع.‏
-فمن حيث الضمان الاجتماعي المفروض على الدولة لتنفيذ مبدأ التكافل العام بين المسلمين، فهو يعبر -في الحقيقة- عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً- بالموعظة الحسنة- من زكاة وصدقة، حتى إنه يحق للوالي أحياناً أن يلجأ إلى إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها، وخاصة في الحالات التي يختل فيها التوازن الاجتماعي اختلالاً جذرياً.‏
- حق الجماعة على الدولة في مصادر الثروة‏
لا تستمد الدولة مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من تنفيذ مبدأ الضمان المفروض على الأفراد (التكافل العام) فحسب، بل من أساس آخر للضمان الاجتماعي وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى هذا الأساس تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم. وترتكز فكرة الضمان الاجتماعي على أساس إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد خلقت للجماعة كافة لا لفئة دون فئة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً("23". وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق بالانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان منهم قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم.‏
وبموجب هذه المسؤولية، لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب (كالتكافل العام) بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي (أي المواد الكمالية أيضاً) ففي حديث أن الإمام موسى بن جعفر قال محدداً ما للإمام وما عليه:‏
"إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له".‏
وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع الحق على ثروات المجتمع كما لو أنها ليست ملكاً لأحد:‏
"إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد"‏
وقال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا"‏
والكل هو الضعيف.‏
وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، الحق للرعية أن تحجب عن طاعته:‏
"إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم"‏
عن الخليفة عمر بن الخطاب.‏
كما أن ضمان الدولة، لا يختص بالمسلم فقط. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً)‏
عن الإمام علي:‏
"أنه مر بشيخ مكفوف كبير السن يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني.. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال".‏
آية: فكلهم عباد الله ( والله رؤوف بالعباد("24".‏
"أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده".‏
__________________

عندما يعلن بعض العلمانيين انكارهم لوجود الله أصلا, فلم يعد هناك مجال للكره, بل أتبرى منها و ألعنها. عندما يعلن بعضهم أن الله موجود و لكن اختصاصاته لا علاقة لها بحياة الانسان, هنا أيضا أنا أتبرى و ألعن ..عندما تصبح الفلسفة النفعية البراغماتية ركيزة للعلمانية, و مبادئ الميكافيلية روحا لها, هنا أغلق الباب في وجها..عندما تدعو الى فصل الدين عن الدولة و السياسة, و تقيم العالم على أساس مادي قبيح, هنا أحس بمدى خبث سريرتها