القسم الثاني : الاقتصاد في الإسلام كعلم أو مذهب
مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية صالحة لكل زمان ومكان.
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الاجتماعي فيه يشكل جزءاً لا يتجزأ من المضمون الروحي (إن الله غني عن العالمين("1"، وأن هذه الثورة هي وحيدة من نوعها في التاريخ الإنساني.
والوحدانية هي جوهر الإيمان في الإسلام. فهو يحرر الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية ما عدا الله (لا إله إلا الله)، وذلك يعني أنه يرفض كل شكل من أشكال "المعبود"، خلال تعاقب الأزمان. وهذا يقود بالذات إلى تحرير كافة ثروات الطبيعة من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله، وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين في قوله:
"إن العبيد هم عبيد الله، وإن الثروات هي ثروات الله".
وبذلك، فقد هدم الإسلام كل القيود الشكلية، وكل السدود التاريخية التي كانت تمنع الإنسان من السعي الدائم والحثيث من الاتصال بربه والسعي في الأرض لكسب رزقه، سواءً ما كان منها مصطنعاً تحت تأثير الخوف من قوى أسطورية، أو ما كان منها بشرياً، كظالم أو متجبر أو جماعة صغيرة مسيطرة ومستغلة تراكم الأموال على حساب الشعوب وتحول بينها وبين تأمين مستلزماتها الحياتية، وتفرض عليها علاقات تتصف بالعبودية.
من هنا، فقد ناضل النبي في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان، نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والاستغلال والعبودية. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل لكل شكل من أشكال العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من الخارج. وقد لقب التحرير الأول: "الجهاد الأكبر"، والتحرير الثاني: "الكفاح الأصغر"، بمعنى أن الأخير لا يتسنى له أن ينجح ويحقق هدفه إلا في إطار الأول. ويستنتج من ذلك:
1- أن الثورة لا تسمح بأن يحل مستغل محل مستغل آخر، ولا أي شكل من الظلم محل شكل آخر، ذلك أنه في الوقت نفسه الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، فقد حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.
ولذلك، فالثورة في المفهوم الإسلامي تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل الطبقة الرأسمالية، أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره وتحرير الإنسان من كل شكل منافٍ للعدالة الإنسانية من الخارج ومن داخل نفسه بالذات (إن النفس لأمارة بالسوء...("2"
2- إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل كفاح الطبقات، كما هو الحال في كثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ، حيث أنها ثورة إنسانية هدفها تحرير كل إنسان، من أية طبقة كان، وتحريره من شيطانه في الداخل أولاً. فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً..! ولذا، فقد سمى النبي الكريم هذا الكفاح "الكفاح الأكبر".
وبفضل هذا الكفاح استطاع الإسلام أن يحقق مطالب الكفاح الأصغر، بحيث أيقظ في كافة النفوس مكامنها الخيرة والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، وقضى على جذور السيئات في أعماقها.
إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، في "الكفاح الأكبر"، ليس بذلك الإنسان المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج، ووسائل السيطرة والنفوذ في الأرض، فيلجأ إلى اقتناصها من أيدي المالكين الأصليين واقتنائها في حوزته، حاسباً بأن انتماءه إلى طبقة المستغلين هو الذي يحدد مكانه في النضال الاجتماعي. إن الثوري الذي يسير في خط الأنبياء، هو ذلك الإنسان الذي يستمد قيمته من جهوده التي يبذلها بالتقرب من الله عن طريق نفعه لعباده "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده"، واتصافه بكافة القيم الإنسانية، والذي يضارع بضراوة كل أشكال الاستغلال التي يعتبرها اختلاساً للقيم الإنسانية، والانحراف بها عن مسيرها الحقيقي وتحقيق أهدافها الكبرى، نحو إلهائها بالتفتيش عن الغنى والإثراء الفاحش بشتى الوسائل.
إن ما يحدد هذا الوصف الثوري الذي يتبع خط الأنبياء هو درجة نجاحه في الكفاح الأكبر، وليس وضعه الاجتماعي، ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
وسنتناول عناصر البحث في الاقتصاد الإسلامي، على منوال البحث في النظامين الماركسي والرأسمالي، بمحاولة الفصل إلى علم ومذهب، علماً بأن الإسلام لا يدعي لاقتصاده بصفة العلم. وقد سبق أن نفينا أيضاً صفة العلم عن كل من النظامين الاقتصاديين السابقين.
آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم
إن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أي أساس عقائدي معين أو أية نظرة إلى الحياة والكون سوى النفع المادي، كالمذهب الرأسمالي. وقد أثبتنا فيما سبق أنهما لا يملكان بالفعل صفة العلم.
وبمعنى آخر، فالاقتصاد الإسلامي ليس علماً مصطنعاً لقوانين يعتبرها طبيعية، وهي -في الواقع- غير طبيعية (الماركسية)، ولا كعلم الاقتصاد السياسي الذي يراقب ويحسب ليقدم التفاسير والتعليلات التي لا طائل تحتها (فالتعديلات التي تطرأ عليه كل عام تتجاوز الأسس الثابتة، وتذخر بالتناقضات).
فالاقتصاد الإسلامي -كما ذكرنا- هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى سليم. إنه ثورة من داخل النفس على النفس الأمارة بالسوء لكي تصبح كريمة سخية عادلة جديرة بصفة الإنسان. إنه تغيير الواقع، لا وصف وتفسير له. كما أنه ليس علماً افتراضياً مرسوماً في أروقة المكاتب، والذي جاءت نتائجه خاطئة وبعيدة جداً عن الواقع.
وما لنا وكلمة العلم في هذا المجال. فلم يسبق في تاريخ الحضارات التليدة التي تعاقبت على الكون، في عظمتها وجلالها وسموها وعبقريتها، أن ادعت حضارة أن اقتصادياتها كانت تقوم على العلم، أو أنها ابتدعت نظريات علمية اقتصادية، خاصة وقد ثبت لنا أن الاقتصاد العلمي، بشقيه الشرقي والغربي، لاقى فشلاً ذريعاً في نظرياته خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن، بينما استمر الإسلام ينشر رايته الخيرة، ويسبغ السعادة والرفاهية على الشعوب كافة مدة قرون عديدة. فما هي الأسس التي بني عليها المذهب الاقتصادي في الإسلام.
ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب
الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:
1- مبدأ الملكية المزدوجة
2- مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
3- مبدأ العدالة الاجتماعية.
1- مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.
فالرأسمالية تؤمن بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا تعترف بالملكية العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية القصوى.
والاشتراكية، على العكس من ذلك، تعتبر فيها الملكية الاشتراكية أو ملكية الدولة بمثابة المبدأ العام الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد.
أما الإسلام، فيقر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد. فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل شكل من هذه الأشكال حقلاً خاصاً تعمل فيه. دون أن يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.
ولهذا، كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن سمح بالملكية الخاصة، لأن الملكية الخاصة بالنسبة إليه ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.
وكذلك من الخطأ أن يعتبر مزجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الرأسمالية.
فتحديد نوع الملكية يمكن أن يستوحى من الطبيعة ذاتها للثروات الطبيعية:
فالملكية العامة، كمنابع، المياه، والأحراش، والمراعي ومصادر الطاقة، والثروات المعدنية عموماً هي، كالشمس والهواء ملك لكل ما خلق الله على وجه الأرض.
فهي ملكية مشتركة منع الإسلام الفرد من الاختصاص بها، وفرض ألا يتملك منها إلا بقدر حاجته.
وحتى المعامل التي تقوم باستثمار هذه الثروات يجب أن تكون مشتركة لأن الإنتاج من حق المجموعة. فإذا ملك فرد مصنعاً لاستخراج هذه الثروات، فهذا يعني أنه سيستخرج منها أكثر من حقه فيها، أي ما هو حق لمجموع أفراد المجتمع.
ولذا، فعلى الجماعة الممثلة بالدولة أن تتولى تنظيم استخراج هذه المواد وتوزيعها على المجموع لأن الفرد سيلجأ إلى بيعها للناس وهذا لا يجوز لأنها من حقهم على الدولة.
نظرة الإسلام العامة إلى الأرض
تقسم الأرض إلى قسمين:
- الأرض العامرة طبيعياً: وهي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة وما إلى ذلك.
- الأرض الميتة: وهي التي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط.
فالأرض العامرة هي ملك للدولة، وكذلك بالنسبة للأرض الميتة، أي ذات طابع عام للملكية. إلا أن إحياء الأرض الميتة، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، يمنح هذا الفرد الحق بالانتفاع بالأرض، ما دام عمله مستمراً في الأرض، فإذا استهلك عمله، أو توقف عن استثمارها سقط حقه فيها. أي أن العمل في الأرض ليس سبباً لتملك الفرد رقبة الأرض وإنما سبباً لحقه في الانتفاع فيها فقط. ويسمح الإسلام من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة عليه لتساهم الإنسانية كلها في الاستفادة من الأرض، التي هي -في الأصل- ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد، إنها هبة من الله تعالى للإنسانية جمعاء وكافة الكائنات الحية على وجه الأرض.
المواد الأولية:
تأتي المواد الأولية بعد الأرض مباشرة في الأهمية. فكل ما يتمتع به الإنسان من سلع وطيبات مادية مردها إلى الأرض. وما تذخر به من مواد وثروات معدنية.
ويقسم الفقهاء المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.
فالمعادن الظاهرة: هي التي لا تحتاج إلى مزيد من العمل لإجلاء جوهرها، كالملح والنفط مثلاً. أي المعدن الذي تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواءً احتاج الإنسان إلى حفر وجهد للوصول إلى آباره في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (أي كله من عطاء الله، عدا استخراجه)
وأما المعادن الباطنة: فهي كل معدن احتاج في إبراز خصائص المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (أي يحتاج إلى جهد زائد من البشر)
والرأي الفقهي السائد أن المعادن الظاهرة تعتبر من المشتركات العامة بين كل الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، ولأنها مندرجة ضمن الملكيات العامة. ويسمح للأفراد بالحصول منها على قدر حاجتهم، دون أن يستأثروا بها أو يتملكوا ينابيعها.
وعلى هذا، يصبح للدولة وحدها الحق في أن تستثمرها، بقدر ما تتطلبه الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانيات، وتضع ثمارها في خدمة الناس.
أما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعدن، فتمنعها منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض، فليس له الحق في تملك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكية العامة.
وأما المعادن الباطنة: إنها في الرأي الفقهي السائد من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها في الأرض إلا بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عامودياً وشاقولياً، حسب الرأي السائد فقهياً. وإن كان هناك اختلافات كثيرة بين الفقهاء في هذا الصدد*
ويواجه الفرد، منذ البدء في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجز المعدن وقطع المعدن، وجمد الثروة المعدنية. ويكون بذلك حكمه حكم الأرض إذا توقف عن إحيائها.
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات، لأنها ملك الناس قاطبة. وهكذا، فإن الإسلام قد سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود عديدة.
2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
ويتجلى هذا المبدأ في الاقتصاد الإسلامي بالسماح للأفراد بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية والطبيعية التي يؤمن فيها الإسلام، والتي تؤمن استفادة جميع خلق الله من الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها عليهم.
وهنا نجد الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي (لا أخلاق في الاقتصاد والمال) (الغاية تبرر الواسطة)، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع (عدا رجال الحزب)، يسمح الإسلام للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل العليا التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية جمعاء.
والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
الأول : التحديد الذاتي، الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والثاني: التحديد الموضوعي، والذي يأتي من قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه.
فالتحديد الذاتي، يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كافة مرافق حياته.
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي مما برهن على كفاءة الإنسان لخلافة الأرض عن الله سبحانه وتعالى، وصنع عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرحمة، واجتث من النفس البشرية عناصر الشر. ودوافع الظلم والفساد.
ويكفي من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة مدة قرون عديدة. فما زال ملايين المسلمين يقدمون بملء حريتهم على دفع الزكاة والضمان الاجتماعي وغيرها من حقوق الله سراً وجهراً حتى الآن. وقد ثبت أنها أشد مضاءً من التحديد الخارجي.
أما التحديد الخارجي، فهو التحديد الذي يفرض على المجتمع الإسلامي من الخارج، بقوة الشرع. ويقوم على المبدأ القائل: "لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها ".
ويتم تنفيذ هذا المبدأ عن طريق النصوص التي تنص الشريعة على منع بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وإشراف ولي الأمر على تنفيذها بصفته سلطة مراقبة وموجهة مستمدة من القرآن: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(.(سورة النساء- الآية 59)"3"
ولذا، فالحرية في الإسلام، ليست حيوانية مستهترة متعالية مستكبرة، إنها محدودة في إطار اجتماعي إنساني يضمن مستوى مناسباً من المعيشة لجميع أفراد المجتمع، بحيث لا تكون هذه الحرية على حساب فقدان الآخرين عملياً وواقعياً قدرتهم على التحرك ليسعوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، كما تفعل الشركات العالمية في الوقت الحاضر في ظل نظام العولمة.
وبهذا، فقد حدد الإسلام الملكية الخاصة في حيازة الثروة، ولم يطلقها كما في النظام الرأسمالي دون قيود قانونية أو أخلاقية مما يؤدي إلى اضطراب في توزيع الثروة العامة وخلق الفروق الطبقية.
إلا أنه لم يصادرها كليةً كالنظام الاشتراكي، فمصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان، ذلك أن حيازة الأشياء مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهي متأصلة في الإنسان، ولا يمكن تجاهلها. فمن طبيعة الإنسان السعي لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل، وفقد الإنسان القدرة على الإبداع وإعمار الأرض والسعي فيها كما أمره الله. كما أنه لم يطلق يد المالك في ملكيته ولا في الطريقة التي يحصل عليها.
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:
إن الدين الإسلامي- في الحقيقة- هو دين يسر، وليس بدين عسر، أي أنه لم يشدد على البشر في الواجبات والمحرمات، بل ينطلق في شرائعه من مصلحة الفرد والمجتمع معاً. وحتى في العبادات نفسها، وطرق تأديتها تتجلى مصلحة الفرد والمجتمع بأجلى مظاهرها فـ(إنّ الله غني عن العالمين("4".وما يهمنا في هذا البحث منها ما له صلة بالنواحي الاقتصادية والمعيشية، أي ما له علاقة بحقوق الإنسان في الحياة: وقبل كل شيء، فقد كرم الإسلام الإنسان ذاته كإنسان في جميع مراحل حياته: كرمه كبويضه منع إتلافها، وجنيناً منع إجهاضه، بل وحض على إكثاره وتبجيله
المال والبنون زينة الحياة الدنيا(*"5" ، وكرمه أماً: "الجنة تحت أقدام الأمهات "، وكرمه امرأة وزوجة، وكرمه شيخاً عجوزاً وعاجزاً فقيراً.. الخ وذلك، بشكل لم يسبق لأية شريعة من الشرائع الدينية أو الدنيوية أن وصلت إليه، حتى توّجه أخيراً بجعله "خليفة الله في الأرض"..( وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة("6"
ولذا فقد حض الإسلام، أول ما حض، على تنمية الإنتاج وربطها بالتوزيع. وقد تكون تنمية الإنتاج النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي للاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب. كما أنها ترفض مالا يتفق مع إطارها المذهبي. فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب مالا يتفق مع نظرياته في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع، أي أن لكل شكل من الإنتاج نوع خاص من التوزيع، ولا بد لتكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج، عكس الإسلام الذي يحدد الإنتاج لحساب التوزيع.
فالإسلام يريد من الإنسان المسلم أن ينمي الثروة ليسيطر عليها وينتفع منها في تحسين وجوده ككل، لا لتسيطر عليه، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى. فالثروة وأساليب التنمية تهدف ضمن الشرائع الإلهية إلى تأكيد صلة الإنسان بربه المنعم عليه، وتهيِّئ له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام مواهبه وطاقاته للنمو والتكامل، وتساعده على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة.
والإسلام، على العكس من الرأسمالية التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن توزيعها، فهو يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء. فليست تنمية الإنتاج للإنتاج ذاته كهدف وإنما كطريق للتوزيع وسعادة البشرية. فإن لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الإنسان. وفي هذه الحالة فالله ينتزعها منهم: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء("7" فالتنمية في الإسلام إذاً ليست كما في النظام الرأسمالي، بزيادة دخل المنتج بنسبة كذا، ولو كان ذلك على حساب تسريح العمال، وزيادة معدل البطالة، وسرقة حقوق العاملين، ولا لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية وتنميتها ولا لمضاربيها ومرابيها على كافة المستويات..
2-ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيلة سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل. فالربوي الرأسمالي يقوم بامتصاص أموال المقترضين دون أن يؤدي أي عمل إنتاجي.
والبديل في الإسلام هو توظيف هذا المال في مشروعات إنتاجية تؤمن خلق فرص عمل جديدة وزيادة في الإنتاج يتقاسم ريعه العاملون، وأصحاب الأموال، وغير العاملين من المحتاجين، وهو أكثر ضماناً، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما يجري حالياً نتيجة للمضاربات والإفلاسات لكبار المصارف وبيوت المال في العالم الصناعي وما يدور في فلكه.
وتعتبر الفائدة في العرف الرأسمالي بمثابة أجر رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها. وتحدد بنسبة مئوية من المال المسلف. ولا تختلف كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات، وأدوات الإنتاج، نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات.
أما الإسلام، فقد سمح للكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج وحرم أجر رأس المال، وما ذلك إلا للأسباب التالية:
-فالقاعدة التي تجتمع عليها كافة التشريعات هي: أن الكسب لا يقوم إلا على أساس عمل، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرر لكسبه. فالكسب الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج مسموح به نظراً لما تخزنه الآلة من عمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الآلة في عملية الإنتاج التي يباشرها. أما الكسب الناتج عن ملكية رأس المال النقدي (الفائدة) فليس له ما يبرره نظرياً، لأن المستقرض سوف يرد المبلغ للدائن بكامله دون أن يستهلك منه شيئاً.
وكذلك الحال بالنسبة لاستئجار العقار، فالمستأجر يستأجر عملاً سابقا سوف يستهلك المستأجر قسماً منه حين الانتفاع به.
وتبرر الرأسمالية الفائدة بصفتها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً في تكوين القيمة. فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل.
إلا أنه إن كان صحيحاً أن العملات الضعيفة في البلدان الفقيرة المستدينة تنخفض قيمتها باستمرار، كما تنخفض معها- في الوقت نفسه- قيمة موادها الأولية، فإن العملات في البلدان الغنية الدائنة، هي في ارتفاع مستمر كما ترتفع معها قيمة بضائعها باستمرار. ولنتصور حجم الخسائر الباهظة والمضاعفة التي تتكبدها البلدان الضعيفة المدينة: