عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-07-2011, 09:10 AM
نقاء الروح نقاء الروح غير متواجد حالياً
طالبة جامعية
عضو مثالي لعام 2011
 
تاريخ التسجيل: Apr 2009
المشاركات: 3,789
معدل تقييم المستوى: 20
نقاء الروح is on a distinguished road
افتراضي



أي بُنيّة،
يا لوعة القلب الذي أدميتِه بطعنات عينيك.. ليتني أفهم، كيف هان قتلي عليك لتهجريني؟ وكيف عقدت العزم على تخطي أبيك إذ انسابت أنوثة صباك على جانبيك، لتعلني بملء فمك: "أنا حرة"؟!
أمهليني يا ابنتي.. أمهليني بعض الوقت كي أصدق ما رأته عيني، فأنا في شك من جرأتها على رؤيتك وأنت تنزعين رداء حشمتك.. أمهليني عسى أن أفيق من هذا المنام المزعج.. أن أرتب أفكاري وأستعيد وقاري، فما أنا بالذي يقوى صدره على تلقي سهامك.

"أنا حرة".. رميتِها في وجهي ومضيتِ، لا تلوين على شيء! أطلقتِها لتخنقي بها الرمق الأخير الذي يتحشرج في صدر أبيك العجوز.. ومضيتِ!
مضيتِ إلى حيث تلوح لك الحرية، تلك التي أخرجتك من القلب الوحيد الذي أحبك، لترميك في أحشاء الذئاب!
"أنتِ حرة"؟.. نعم يا ابنتي.. هكذا عرفتُك مذ همستُ بنداء التوحيد في أذنيك، وغرستُ بذور العزة بين جنبيك، ثم سقيتُها بعرق الجبين الذي سكبتُه في بلاد العُجم لأرى السعادة ترتسم على شفتيك.

"أنتِ حرة"؟.. نعم، حرة كأبيك، ذاك الذي آثر الشقاء على الكسب الحرام ليُطيب مطعمك، واستوعب بالحِلم هفواتك ليجْـبُر خاطرك، ولم يُقدم على الزواج بعد فراق أمك حرصاً على مشاعرك.
وماذا بعد ذلك يا ابنتي؟..


تُديرين لي ظهرك.. وترحلين!
بعد أن تشرّب جسدك الغض عصارة شبابي، وبعد أن استقام عودك بانحناء ظهري.. ترحلين!
ألأني بتّ عاجزاً عن دفع فواتيرك، وقد أصبحتِ اليوم تكسبين بغنجك ودلالك أضعاف ما كنتُ أجنيه.. ترحلين؟
أم لأن فتى أحلامك ليس بحاجة لطرق باب أبيك المهترئ كي يقنعه بأن يحملك على صهوة جواده.. تلملمين أشياءك الصغيرة وترحلين؟

إن كنت فاعلة يا ابنتي.. فهلاّ تذكرين؟..
اذكريني إن مررتِ يوماً ببيت أبيك العجوز ولمحتِ نافذة غرفتك التي عشقتْ يديك الصغيرتين كلما لوّحتا لعودتي في المساء.
اذكريني كلما وطئتِ بحذائك الرياضي أرضاً خضراء، واذكري الحشائش التي رعيتُها لك في فناء البيت كي تشهد خطواتك الأولى.
اذكريني كلما أدخلتِ يدك إلى جيب معطفك، واذكري أزهار اللوتس التي كنتُ أخفيها لك في جيوبك الصغيرة قبل أن ترحلي إلى مدرستك.
اذكريني كلما ثنيت جسدك الممشوق في صالة التدريب، واذكري كم مرة أحنيتُ ظهري لتركبي عليه.
اذكريني يا ابنتي كلما مشيتِ خطوة أو مضغتِ لقمة، اذكريني كلما أمسكتِ قلماً أو قرأتِ كلمة، اذكري أباك العجوز الذي نسيتِه وحيداً أمام نافذة بيتك القديم وهو يتأمل وجوه المارة كل صباح أملاً في عودتك.



ثم اذكري يا ابنتي أمنيتي الأخيرة، واذكري عدم اكتراثي ببطاقات المعايدة وباقات الورود، فكل ما بقي لي من أمل في هذه الدنيا هو أن أتحسس يديك الناعمتين، ثم أضم جسدك المشدود بالثياب بين ذراعيّ، وأمرر أصابعي بين خصال شعرك الذي أطلقتِه للهواء.. حتى أغمض عينيّ على الحلم الجميل الذي بذلتُه لك.
ولْتذوقي بعدُ يا ابنتي طعم حريتك كما تشائين!
يؤسفني أنك لم تتركي لي رقم هاتفك عندما غادرتني، ولذا لم أجد بداً من كتابة هذه الرسالة وإرسالها إلى عنوان الشركة التي تعملين لديها.. أرجو أن تصلك سريعاً، وأن يصلني ردك.

أبوك المحب

ختم الرجل رسالته، وضعها في ظرف بريدي وألصق عليه طابعاً، ثم كتب العنوان وهو يغالب دموعه.
نظر مرة أخرى إلى وجوه المارة عبر النافذة.. وبدأ يفكر: ترى، أين أنت الآن يا ابنتي؟

.
.



رد مع اقتباس