(2)
دخلت شقتها الصغيرة وأغلقت الباب خلفها بعنف، خلعت حذاءها الرياضي ورمته جانباً، ثم ارتمت على أريكتها، أخرجت هاتفها الخلوي من جيب بنطالها وأعادت قراءة رسالة صديقها للمرة العاشرة: "حسناً، لننته من هذا الأمر، لا أريد المزيد من المشاكل، وليبحث كل منا عن حياته الخاصة.. التوقيع: جاك".
"إلى الجحيم".. كتبت الرد وأرسلته على الفور، ثم رمت الجهاز على المنضدة وأخذت تبكي بحرقة.
نهضت بعد أن جفت عيناها من الدموع لتنظر إلى وجهها الشاحب في المرآة، وبدأ شريط الذكريات بالاستعراض..
هاهي تخرج مع والديها من مطار نيويورك لتمتع عينيها بمنظر المدينة الخلاب، وتقول لوالدها: ما أجمل هذه البنايات يا بابا.
تتجول في غرف البيت الجديد وتتأمل أثاثه الفاخر، كان بيتاً واسعاً من طابقين، وله فناء خلفي حيث يوجد مكان للشواء وفسحة للّعب. والدها يأخذ بيدها ليريها غرفتها الجديدة.. تصرخ بفرحة غامرة وهي تقارن بينها وبين غرفتها المتواضعة في الشقة التي نشأت بها في الوطن.
مصاعب جمة تبدأ منذ اليوم الأول في المدرسة، ومشاكل تعلم اللغة الجديدة التي لا تنتهي.. سخرية زميلاتها من شعرها المجعد وحاجبيها الغليظين، وخجلها من اسمها العربي.
كفاح والديها لرفع معنوياتها، وجهودهما المضنية لإقناعها بالتمسك بهويتها ودينها.
كفاحها المستمر لتعويض معاناتها بالاجتهاد في الدراسة، وتفوقها المستمر بمساعدة والديها.
تخرّجها من الجامعة بامتياز، وغيرة زملائها التي تفطر قلوبهم.
لحظة الوداع التي لم تكن في الحسبان، وشبح الموت يختطف أمها ويلقي بظلاله الكئيبة على الدنيا كلها.
لم يعد شيء في حياتها على حاله، ولم تعد راغبة في الخروج من أزمتها.
اسودت الدنيا في عينيها.. أصبح العمل مملاً، والأصدقاء تافهون، وأبوها عاجز عن فهمها.
لا شيء يستحق الاهتمام، ولا شيء قابل للتغيير.. الحياة خالية من الجمال، ومن الحب، وحتى من العقل.
لا حل إلا بالتمرد على هذا السخف، سترفض كل شيء، ولن يقف أحد في طريقها.
نزعت حجابها في حركة استعراضية، وتحدّت والدها في أن يعيده إلى رأسها.
"ملابس قصيرة وفاضحة".. إنها تفي بالغرض جيداً، فهي خير تعبير على حريتها.
"تعالى يا جاك.. انظر إلى مفاتني جيداً، ولا تتردد في دعوتي على العشاء".. ستبدأ حياتها الآن على طريقتها، وستفعل كل ما يحلو لها.
لم تعد مقاطعة والدها كافية، فمجرد تدخله بالتساؤل عن أسباب غيابها أصبح أمراً لا يحتمل.. حسناً، لعله لا يعرف "أنها حرة"، وأن قوانين هذه البلاد التي اختار العيش فيها بنفسه تكفل لها هذا الحق.. لـمَ لا تشرح له ذلك إذن.. عسى أن يفهم, وبطريقتها الخاصة طبعاً؟
ولكن.. يبدو أن ذلك ليس كافياً، فهو عاجز عن الفهم. حسناً.. ولماذا الانتظار، فهي ليست مضطرة للمزيد من الصبر.
إنها تعمل وتكسب رزقها بنفسها، وقد تخطت السن القانوني منذ سنوات. لا شيء أسهل من الخروج إذن، فصديقها سيرحب بالفكرة كثيراً.
تتخطى بسرعة لقطة خروجها الاستعراضي من البيت وهي تخبره بأنها ذاهبة إلى جاك. لا تريد حتى أن تتذكر هذا المشهد، وخصوصاً نظرات أبيها الذي ألجمته المفاجأة عن الكلام.
أجهشت بالبكاء مرة أخرى، وبدأت تصرخ عالياً: "أين أنت يا أبت؟.. أين أنت يا أمي؟.. سامحوني أرجوكم"..
ارتمت على الأرض ومنحت نفسها وقتاً كافياً للنحيب والبكاء، ثم نهضت وقد التمعت في ذهنها فكرة مباغتة. أخرجت دفتر رسائلها وانتزعت منه صفحة، ثم ارتمت على أريكتها. مسحت دموعها وهي تتنهد.. كتبت على رأس الصفحة: "رسالة إلى أبي العزيز"، وعنونتها بعبارة: "هل تسامحني؟".. ثم كتبت تحتها: