(3)
في صباح اليوم التالي، استيقظ الأب باكراً، التهم فطوره على عجل، وخرج مسرعاً إلى سيارته التي أقلته إلى وسط المدينة، أوقفها في أحد المواقف العامة، وبدأ يمشي الهوينى صوب مركز البريد. كان يضع يديه في جيبي المعطف، ويلف وجهه بوشاح من الصوف يقيه صقيع نيويورك القارس، بينما يفكر شارداً في ابنته وما يُحتمل أن تكون عليه في هذه اللحظة، ولم ينتبه لما حوله إلا وهو أمام مدخل مركز البريد.
وضع يده على مقبض الباب الزجاجي ليهمّ بالدخول، فسبقته إلى فتحه فتاة كانت إلى جانبه وقالت: تفضل يا عم!
شكرها وولج إلى الداخل مسرعاً في الهرب من الطقس البارد، ثم توقف فجأة وكأنه تذكر شيئاً.. التفت إلى الخلف ونظر إلى الفتاة التي دخلت بعده، تأمل وجهها جيداً وهي تنزع عنه وشاحها الأحمر ببطء.. مدّ يده إلى وشاحه ليكشف عن شفتيه المرتجفتين.. وتوقف الزمن!
تجمد كلاهما في مكانه.. يدٌ على الوشاح، ويدٌ أخرى تمسك ظرفاً عليه طابع بريدي.
تجمدت الحركة من حولهما، وتوجهت كل الأنظار إلى ما يشبه تمثالين من الشمع تخرج من أفواههما أنفاس حارة تأخذ شكل البخار.
مرت ثوان طويلة كأنها ساعات، والهمسات بدأت تعلو متسائلة عن تفسير هذا المشهد.
نطق التمثالان في لحظة واحدة بلغة لا يعرفها أهل البلد، ولكنها بدت للجميع مفهومة بالبداهة.
تعانقا، وتبادلا القُبلَ ومسْحَ الدموع. علا بكاؤهما، وغلب عليه صوت التصفيق الحار الذي ضجت به أروقة البناء.
التفّت السيدات "النيويوركيات" حولهما ليعبّرن عن مشاعرهن حول هذا المشهد الدافئ وغير المألوف، وأخذ الأب العجوز ابنته بين ذراعيه وهمّ معها بالخروج وهما يردّان التحية والابتسامات الممزوجة بالدموع.
التقطت عجوز أنيقة ظرفين بريديين من الأرض، وصاحت بهما. التفتا معاً وقالا بصوت واحد: "لا حاجة لي به"، وهرعت إليها السيدات اللاتي أُخذن بالمشهد يطلبن منها فتح الظرفين وقراءة الرسائل، ولكن لم يلبث أن خاب ظن الجميع عندما قالت: أوه.. ما هذه اللغة الغريبة!
على بُعد جادّتين، استقل الأب وابنته سيارة العائلة، وخرجا بها من الموقف العمومي. رفعت الفتاة وشاحها عن رقبتها وغطّت به شعرها.. نظر إليها أبوها بطرف عينيه، وتبادلا ابتسامة واحدة.
تفرقت السيدات في مركز البريد بين المارة بحثاً عن شخص يمكنه قراءة تلك اللغة الغريبة، وسرعان ما رفع طالب جامعي يده قائلاً: نعم، أنا يمكنني قراءتها لكُنّ.
جلس الشاب على أحد مقاعد الانتظار، والتفّت حوله عشرات السيدات ليرهفن السمع إلى ترجمة فورية للرسالتين.
سارعت مراسلة تلفزيونية صادف تواجدها في المكان لتصوير هذا الحدث المجاني، ونقلت إحدى المحطات المحلية هذا السبق الصحفي حياً على الهواء، مع شهادات السيدات اللاتي قضين بضع ساعات في البكاء والثرثرة.
أخيراً.. وقفت المراسلة أمام الكاميرا لتدلي بشهادتها:
"وهكذا أعزائي المشاهدين.. نقلنا لكم- وحصرياً على شاشتنا- إحدى أكثر القصص الإنسانية روعة في هذه المدينة.. حقاً إنه يوم رائع يختلط فيه برد الشتاء مع دفء الحب والعلاقات العائلية التي أصبحنا نفتقدها..
هذه ليزا من مركز البريد، وسط المدينة".
في المساء، اجتمع الملايين من "النيويوركيين" كعادتهم لمتابعة حدث الساعة، فيما كانت مقدمة البرنامج تدير باقتدار حواراً ساخناً بين ثلاثة من أساتذة الجامعات في ولايات مختلفة عبر الأقمار الصناعية، وتنوع النقاش بين حقوق القناة في اقتحام حرية الأفراد بإذاعة الرسالتين على الملأ، وبين قضايا أخرى ما زالت تلقى اهتماماً كمشكلة اندماج الأقليات، وحوار الأجيال، وحقوق الأطفال على الآباء..
في الوقت نفسه، وفي بيت هادئ بإحدى ضواحي نيويورك، كان رجل عجوز يضم ابنته الشابة تحت ذراعه وهما يلتحفان غطاء من الصوف أمام المدفأة ويتابعان تفاصيل الحدث.
رشف العجوز ما تبقى من كأس الشاي الذي في يده ثم أطفأ التلفاز عن بعد.. تنهد وقال بصوت خافت: أظن أنك كنت محقة يا ابنتي.
همست الفتاة بعد دقيقة صمت: وأنت كذلك يا أبي.
مرت دقيقة صمت أخرى، وخمدت نار المدفأة بعد أن نفد وقودها.. سألت الفتاة أباها: أما زلت تفضل النوم على هذه الأريكة يا بابا؟
أجاب مبتسماً: نعم يا حبيبتي.
مدت الفتاة يدها بهدوء إلى المصباح الذي بجانبها وقطعت عنه الكهرباء.. وساد صمت مطبق.
النهاية
.
.
.