اغضب.. أنت في كندا!!
عندما شاهدت المدارس هناك.. حزنت لأجل أطفالي التعليم مجاني.. لا زي مدرسياً.. لا دروس خصوصية.. لا حقائب تنوء بحملها الجبال.. لا وزارة من الأساس
رسالة مون لورييه: يسري حسان
الجمعة 23 سبتمبر 2011
لست قروياً ساذجاً بهرته أضواء كندا.. كنت كذلك منذ عشرين عاماً عندما ذهبت إلي باريس وتلقيت أول وأكبر وأقوي صدمة حضارية في حياتي. كدت أبكي عندما غادرتها.. واكتأبت شهراً كاملاً عندما عدت. إلي أن منَّ الله عليَّ بالشفاء.
لم أعد كذلك بعد أن طُفت وشُفت حوالي 32 دولة من الشمال إلي الجنوب ومن الشرق إلي الغرب.. واكتشفت. بالعين التي أصبحت مدربة. جمالاً خاصاً في كل بلد أو مدينة أو قرية ذهبت إليها.. حتي ليبيا نفسها وفي عز قهرها وذلها اكتشفت فيها ما يبهج.. أما مصر. ورغم كل شيء. فهي الأجمل والأحب عندي.
ذهبت إلي كندا وتحديداً إلي مدينة "مون لورييه".. مدينة صغيرة تابعة لإقليم الكيبيك تتوسط المسافة بين مونتريال وإتاوا.. أهلها البالغ عددهم 15 ألف نسمة فقط يتحدثون الفرنسية وينحدرون من تلك السلالات الفرنسية التي غادرت بلادها إلي هذه المدينة.. وعندما تحدثت إلي سيدة تبلغ من العمر 92 عاماً عن معمار المدينة وطريقة تقسيم شوارعها قالت إنه نفس المعمار ونفس الطريقة التي كانت عليها مدينتهم الفرنسية كما أخبرها أبوها وجدتها!
تستطيع القول إن "مون لورييه" قطعة من الجنة.. المياه والخضرة حولك من كل جانب.. ولن أحدثك عن الوجه الحسن وأدعك تترك العنان لخيالك. وكل ما سيصل إليه في الاتجاه الإيجابي طبعاً صحيح ومبصوم عليه بالعشرة.. البنايات بسيطة وفي غاية اللطف ولا يزيد ارتفاعها علي طابقين. وأغلبها طابق واحد.. لا أسوار حول البيوت.. وكل بيت محاط بحديقة لو أهمل أصحابها قص النجيلة لقام مجلس المدينة بقصها وحصل منهم علي التكاليف.
الناس في هذه المدينة مهذبون للغاية. ويكادون يعرفون بعضهم بعضاً.. كلما قابلت واحداً منهم في الشارع ابتسم في وجهك وقال "بونجور".. معظمهم من كبار السن وهو ما دفعني لسؤال مهاجر تونسي اسمه مصطفي. لديه مطعم لبناني في المدينة عن السر فقال "مون لورييه" تعد مدينة ريفية.. وكلما بلغ الشاب ثمانية عشر عاماً غادرها إلي مونتريال أو إتاوا للدراسة أو العمل أو للاثنين معاً حيث يعمل الطالب ويدرس في نفس الوقت نظراً لارتفاع تكاليف الدراسة الجامعية التي تبلغ في العام الواحد حوالي عشرة آلاف دولار.. ويزور المدينة مرتين في العام.. وعندما يبلغ سن المعاش يعود إليها ويبني له بيتاً يقضي فيه مع أسرته بقية حياته.
مصطفي التونسي الذي عزمني علي "كابتشينو" ورفض أن يحصل علي ثمنه. قال إنه يستأجر شقة صغيرة خلف المطعم يدفع فيها 350 دولاراً كل شهر.. أما المطعم فإيجاره 1500 دولار.. قلت يابلاش.
لم أكن في نزهة طبعاً.. لست قادراً علي هذا الترف.. ذهبت إلي هناك مدعواً لحضور مهرجان مسرحي "دوبل ديفي" تقيمه فرقة مسرحية خاصة.. تحصل علي دعم من مجلس المدينة وحظها أن العمدة ميشيل أدريان كان ممثلاً في الأصل.. كما تحصل علي دعم من بعض الرعاة. وكذلك من المدارس التي تتعاون مع المهرجان في نقل الفرق من الفنادق إلي المسارح بواسطة أتوبيساتها المخصصة للطلاب.
المدارس في مقابل ذلك. وحتي يستفيد تلاميذها من إقامة المهرجان في مدينتهم. تدعو أعضاء كل فرقة إلي لقاءات مفتوحة مع التلاميذ.. يتحدث الضيوف عن بلادهم وأهم ما تتميز به. ويعلمون التلاميذ الألعاب الشعبية الخاصة ببلادهم.. ويجيبون عن أسئلتهم حول أي شيء يخص هذه البلاد.
ولك أن تتصور أن تلاميذ المدارس في هذه المدينة تعرفوا خلال فترة المهرجان علي 25 دولة شاركت في المهرجان.. ماضيها وحاضرها.. موقعها وجغرافيتها.. ثقافتها.. تراثها وكل شيء يخصها. ولك أن تسأل وتحزن وتتأسف عندما تعرف أن مصر المحروسة التي تقيم العديد من المهرجانات لم يفكر أي مسئول فيها أن يستغل وجود "أجانب" في مصر ليفعل مثلما يفعل الناس في كندا!!
وحتي تحزن أكثر سأخبرك بأن المدارس في هذه المدينة شيء أسطوري ومجهزة علي أحسن مستوي وبها كل ما يلبي احتياجات التلاميذ من ملاعب وأدوات وقاعات لممارسة الهوايات. وكافيتريات. ومسارح. ومدرسون ومدرسات يتعاملون مع تلاميذهم بلطف مبالغ فيه.. ويقدرون الفروق الفردية بين تلميذ وآخر.. لا عنف ولا شخط ولا نطر.. حتي إذا كان هناك تلميذ شقي فتكفي نظرة من معلمته ليلزم محله.
زرت العديد من المدارس وتحدثت إلي التلاميذ عن مصر وحضارتها وحاضرها.. وكنت دائماً أقارن بينهم وبين أبنائي الذين في المدارس.. أو بمعني أدق بين مدارسهم وبين مدارس أولادي وأحزن كثيراً لأجل أولادي.. لا زي مدرسي هناك.. كل تلميذ يرتدي ما يشاء.. لا تجارة ولا بيزنس في الزي المدرسي كما عندنا في مصر المحروسة.. فوجئت بأن التلاميذ لا يحملون حقائب تنوء بحملها الجبال كما عندنا.. كل تلميذ له دولاب يضع فيه حقيبته.. الدروس والمذاكرة في المدرسة.. واللعب كذلك.. والبيت للراحة والنوم.. لا دروس خصوصية ولا مجموعات تقوية ولا أي شيء من "سيرك" التعليم المفتوح عندنا.. بل لا وزارة للتربية والتعليم أساساً.. في كندا عشر مقاطعات وثلاث مناطق.. كل مقاطعة تختار المناهج التي تريدها والتي تتوافق مع احتياجاتها وظروفها.. المناهج بسيطة ولا تعقيد فيها.
قال لي مصري مقيم في كندا إن أولاده يبكون في حالتين.. الأولي عندما يتغيبون عن المدرسة.. والثانية عندما يذهبون لأداء الامتحان المصري.. تذكرت منهجاً تدرسه إحدي بناتي في مادة اللغة الإنجليزية اسمه "زون" لا يضعه إلا شخص عدواني لا يكره شيئاً في الدنيا قدر كراهته للأطفال.
المدارس هناك حتي المرحلة الإعدادية بالمجان حتي "التوصيلة" يتكفل بها أتوبيس المدرسة دون أية رسوم.. أما الكثافة في الفصول فلا تزيد علي عشرين تلميذاً وتلميذة.. ولا يوجد كتاب خارجي وكتاب وزارة يضعه أيضاً مؤلفو الكتاب الخارجي بشكل قميء حتي يجد الكتاب الآخر من يشتريه.. ولا توجد كذلك كما في مصر الشقيقة مدارس عادية. وأخري تجريبية. وثالثة خاصة. ورابعة قومية. وخامسة إنترناشيونال.. كل المدارس في مستوي واحد.. كل المدارس مبهجة.. كل التلاميذ فرحون ومفرحون وشكلهم يفرح.
ستقول إن ظروفهم غير ظروفنا.. وأقول لك أي نعم ظروفنا صعبة ومواردنا محدودة وأعدادنا كبيرة.. لكن هل يحول ذلك دون تطوير مدارسنا شكلاً وموضوعاً.. نفس الطوب والحديد والأسمنت الذي نبني به مدارس شكلها يصعب علي الكافر يمكننا أن نبني به مدارس أكثر أُلفة وبهجة.. ونفس الورق الذي نطبع عليه الكتاب المدرسي السييء يمكننا أن نطبع عليه كتاباً يحبه الطالب ويستغني به عن الكتاب الخارجي.. ونفس المعلم إذا أهلناه جيداً وأعطيناه حقه وراقبناه سيقوم بواجبه علي الوجه الأكمل.. ونفسي نفسي.. يحتاج الأمر فقط إلي شيء من الخيال.. وشيء من الرغبة في صنع وطن أجمل.. ويحتاج إلي روح جديدة.. وذاكرة جديدة تتخلص من ميراث الحزب الوطني الفاسد.. ذاكرة لايصف أصحابها كل من يطالب بحقه بأنه "قلة مندسة".. مصر لم تتغير بعد.. وربما لن تتغير طالما ظل الحزب الوطني يحكمها ولو من خلف ستار!!.. وطالما ظل أصحاب الخيال المحدود هم من يتولون أمورها!!
http://www.alamelarab.com/NEWSPA/elmesa.htm