المقاصد التربوية للعبادات
الحديث عن الأبعاد التربوية للعبادات يندرج ضمن البحث في مقاصد العبادات وأسرارها، والحكمة من مشروعيتها أو فرضها. وهذه مسألة من مسائل مقاصد الشريعة، لا يتسع المجال في هذا المقام للدخول في تفصيلاتها.
ولكن يحسن أن نتساءل: ما هي الحكمة من فرض العبادات؟ هل فرضت لأداء حق الخالق المنعم، أو لتحصيل منافع للعباد أو لتحصيل ثواب الله ومرضاته؟ أو لتغذية الأرواح وتهذيب النفوس؟.
لاشك في أن العبادة هي حق الله تعالى على العباد، حق الخالق الذي أوجد العبد وأنعم عليه.
روى البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: >كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، على حمار، فقال لي: >يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً "(1).
وفي الحديث القدسي، قال الله عز وجل: >ابنَ آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك، فبحقي عليك لا يشغلك ما خلقته لك عما خلقتك له<.
خلق الله الإنس والجن لعبادته، قال سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ* ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمونِ. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}(1). ومن الظلم والجهل التام أن يضيع الإنسان الضعيف المحتاج حق خالقه ورازقه والمنعم عليه، فيترك عبادته عز وجل، ويعبد غيرهُ، مما لا يضر ولا ينفع، وقد عجب الله، عز وجل، لظلم الإنس والجن وجهلهم. قال في الحديث القدسي. > إني والجن والإنس في نبأ عظيم. أخلق ويُعبدُ غيري، وأرزق ويشكر سواي. خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمتي، وأنا الغني عنهم، فيتعرضون إلي بالمعاصي، وهم أفقر شيء إلي<.
إن المقصد الأصلي من العبادة هو أداء حق الله تعالى، وهناك مقاصد أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي، منها مقاصد دنيوية، ومنها مقاصد أخروية. قال الشاطبي في كتاب الموافقات:" المقصد الأصلي منها هو التوجه إلى الله الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه في كل حال. ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة. أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك"(2).
وقال : > فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه، وإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له. قال تعالى: {وأقمِ الصلاة لذكري} (3). وقال: { إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ}(4).
يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله أعظم وأكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله هو المقصود الأصلي.
ثم إن لها مقاصد كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا كما في الخبر. كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا حضر وقت الصلاة يقول للمؤذن. >أرحنا بها يا بلال". وفي الصحيح أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: >وجُعِلت قُرّةُ عيني في الصلاة "، وإنجاح الحاجات كصلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ونيل أشرف المنازل. قال الله تعالى: {ومن الليل فتهجَّدْ به نافلةً لك عسى أن يبعثك ربُّك مقاما ًمحمودا}(1). وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية، وهي العامة. وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله (2).
يتببن من هذا كله أن المقصد الأول من العبادة هو أداء حق الخالق على المخلوق. حق الرب المنعم على العباد. إنها على حد قول الشيخ القرضاوي مطلوبة لذاتها، وغاية في نفسها، وليست مجرد وسيلة لتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب. والعبادة غاية المكلفين أنساً وجناً. بل هي مراد الله من خلق السموات والأرض، قال سبحانه: {الله الذي خلق سبعَ سماواتٍ ومن الأرض مِثْلَهُنَّ يتنزلُ الأمرُ بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قديرٌ وأن الله قد أحاط بكل شيءُ علماً} (3).
هذا هو المقصد الأول من العبادة، أما صلاح النفس وزكاة الضمير واستقامة الأخلاق فهي ثمرة لازمة للعبادة، وليست علة غائية لها.
وبهذا كله نعلم أن العبادة مطلوبة في الدين طلب الغايات والمقاصد، لا طلب الأدوات والوسائل، أعني أنها في الدرجة الأولى امتثال لأمر الله تعالى، وأداء لحقه، فهي مطلوبة لذاتها قبل أي شيء آخر في هذه الحياة (4).
وإن من فضل الله تعالى أن جعل في هذه العبادات أسراراً خاصة وآثاراً نفسية واجتماعية طيبة، وفوائد تربوية كثيرة، والإنسان حين يؤدي هذه العبادات على الوجه الصحيح يجمع بعمله بين أداء حق الله تعالى عليه، وبين تحقيق منافعها وآثارها المباركة في نفسه وحياته.
وعلى الإنسان أن يعلم أن الله تعالى غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وإنما خلقهم من أجل عبادته ليكملهم ويزكيهم بهذه العبادة، ولعقد صلة دائمة بين العبد وربه، ولتجديد إيمانه، وقد بين الله أن ثمرات العمل الصالح، ومنه العبادة إنما هي لفائدة الإنسان ومنفعته، قال الله تعالى : {ومَنْ جاهدَ فإنما يجاهدُ لنفسهِ، إن الله لغنيُّ عن العالمين} (1) .
وقال: {ولله على الناس حِج ُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً ومَنْ كفرََ فإن الله غنيٌّ عن العالمين}(2).
وقال : {من عَمِل صالحا ًفلنفسهِ ومَنْ أساء فعليها وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد}(3) .