وفجأة وإذا بخفقات تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي ، صحت بأعلى صوتي ، ضاق نَفَسي  ، بردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت يا إخوتي أصدقائي أغيثوني ، ما هذا  الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل بصديقي وأخي وحبيبي ، لكن واحسرتاه ..  واحسرتاه ... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي  المظلمة .
 
 
قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني أتنفس من خرم إبرة .  أيقنت عندها أنه جاء يطلبني ، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار  ، لكن دون جدوى ، كان شديداً غاضباً مني ، عيناه تحكي حقده عليَّ ، رفض  توسلي إليه ، قال بأعلى صوته : ألم تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ...  أنتَ من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني ، بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي ، ويدمر تسليتي بألعابي .
 
 
ردَّ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحُبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي .
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني ، لِمَ تنساني ....
ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوماً أنك تطلبني ، ما فكرت يوماً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي بشبابي . 
عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلاً إلى مطار  أرضه غير مرصوفة ، وسادته التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ، برده  شديد يفتك العظام ، يقطع الأوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه  العينان على الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يُسمع ، وتوسله لا  يُجاب ، إذاً قد أصبح بينه وبين الدنيا حجاب ... 
صحتُ بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود .
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن والمرض  يدبُّ إلي . هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت ... بكيت  ... رفعت صوتي , أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام ناظري ,  تدحرجت دموعي على خدي , خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في ريعان الشباب  . آهات وآلام تحفز دموع الندم , لتقول لي:كم من متعة  استمتعتها ,وشريط غناء سمعته , وصلاة تكاسلت عنها , ارتعش لساني وخرجت  كلماتي : بأي وجه أقابل ربِّي ؟ كيف أعتذر وقد خنته ؟ 
 
هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ إلى النار؟ الأسئلة الملحة تطاردني , والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟  الدنيا كلها لن تخفيني ممن يطاردني , لساني يلهث يردد رحماك ربِّي ...  إلهي أتوسل إليك أمهلني لازلت في ريعان شبابي , سفينة حياتي تتحطم على صخرة  النهاية . الموت يدكها .. يحطمها .. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة  ... رحماك ربي .
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي , فرحت فرحاً لا  يوصف , استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي , تحرك لساني , ناديتهم بأعلى  صوتي , وهو يطاردني جاثم على صدري , أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك يغادر الدنيا , تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك أنفاسه محجوزة , ومن الموت مفزوعة , أمي الحنون أين أنتِ عني ؟  أين حنانك مني؟ بل أين حبٌّك لي؟ أماه امنعيني ومن الموت أجيريني .. حبيبك  يموت ... أماه مُدِّي لي يدك اعلق فيها آخر أنفاس الحياة . أماه مُدِّي لي  يدك أقبِّلها .. أودعها ... أشمّ فيها رائحة المحبة . أمي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوماً عليك . 
 
أماه إنها لحظات الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني .  نادتني حبيبي حياتي , أفديك بنفسي , وضعتْ رأسي علي حجرها , وأمسكت يدي  بيدها , بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألماً فوق ألمي . صحت : آه  آه يا أماه من شيء يقطع قلبي , يمزق أعضائي , يجري مع دمي , بل يا أماه  يكسر عظامي .. آه لو تعلمين .. إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد .. زاد  بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي ليتوب , ليعود . إلهي لا تخيب رجائي فيك .
 
مددت يدي لأختي ... لأخي ... لأبي ... تعلقتُ بهم .. وداعاً أحبَّتي.. علا بكاؤهم , وزاد أساهم,  يرون آلامي لا تُوصف , تعجز عن وصفها الأقلام , ويقف عنها عاجزاً الكلام  .. جبال على صدري , وهموم تثقلني .. إلهي من يفرِّج همي وينفِّس كربتي ..  اشتد نزعي , ضاق والله بها صدري .. ينادونني قل لا إله إلا الله .
 
 وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة . حُملت للمستشفى, واستقبلت  بحفاوة , ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش .. هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه ,  وآخر ينعش بضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا انتشالي من  بين فكي الموت, لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه .
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه , وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام الموت فشله  . خرج لأهلي, دموعه على خده قابضاً يده . تعالوا لتحضروا وفاته . دخلوا  الغرفة كلهم , ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي , بشريط  مسجل على لساني , كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم  مبتعداً عن الملهيات والأغاني , وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرَّة .  انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء . حقيقة مُرة وكذبة كبيرة , عشت فيها  سنين . تذكرت عندها كلاماً لسفيان الثوري : أكبر خيانة أن يخونك  لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف ما هي ؟ إنها الشهادة , وفجأة تجمع  الأطباء حولي واشتد نزعي , وصِحْتُ بأعلى صوتي : آه لو أعود .من منكم  يزيدني من عمره ساعة .. دقيقة .. ثانية ؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ,كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من الحزن يديه .
 
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة , هوت كلها إلى مؤشر الصفر  معلنة النهاية , فدقت أجراسها خطراً , وعلا صوتها منذراً , وانطفأت كلها  وفاضت معها روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي  ، خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة , تركوني مع  أيدٍ غريبة تقلبني وتلفني بأثواب . ربطوا بها يدي , وشدوا بها رأسي ,  واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيداً لا مرافق لي ، تركني أهلي  كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا جرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت  الثلاجة وفتحت لي أبوابها , حملني اثنان وعن العربة أنزلوني , وفي الدرج  الأول تركوني , مكان ضيق كأنه لحد .
 
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً , ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم عائدين ,  أطفئوا الأنوار , زاد برد الثلاجة , كل ما فيها أناس صامتون , جيران لا  يتكلمون, لا نفس فيسمع , ولا داعي فيجاب ,كنت أمر بقرب هذا المكان لا  أستطيع النظر إليه خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها , يالها من نهاية ,  وما هي إلا لحظات وإذا بأبواب تُفتح , ضجيج وأصوات عالية , ومن بينهم صوت  يقول : أنا أغسله , وآخر أنا أكفنه .
 
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي , كأنهم خائفون مني , خلعوا ملابسي وستروا عورتي , صبوا  الماء فوق رأسي وغسلوني , قرَّبوا الأكفان ونشروها ثم طيَّبوها , حملت بين  أيديهم ألقوني بينها , بدأوا بتغطية وجهي , أوثقوني بالأربطة , ما أشده  وأظلمه من غطاء , قبَّلني أبي وأخي , واستدعيت أمي فلم تتمالك نفسها , حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني .
 
تركوني في ناحية المسجد وحيداً , انتهت الصلاة وتداعى أحبتي : إلينا بعبد  الله فاحملوه وللصلاة قرِّبوه , حُملت بين الأيدي , ورفعت على الأعناق صلى  الناس وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبَّته عند السؤال , أين أصبح  أصحابي يا أحبابي , دعوني معكم ولو ليلة , أترمون بي ؟! قد كنت لكم خادماً  أخاً صادقاً , أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ,كم ليلة  سامرتكم أضحكتكم صدق فيَّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , حديث قد طرق  سمعي لكني لم أعره بالاً , تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا وضعت  الجنازة واحتملها على أعناقهم , فإن كانت صالحة قالت : قدِّموني قدَّموني ,  وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها , يسمع صوتها كل شيء  إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق )) [ رواه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد ] .
 
تنادي جنازتي : دعوني ... دعوني ... أعرف ما أمامي , إنها أشرطتي وأفلامي, أنزلوني ... أنزلوني .
أما تسمعون ندائي ... لا أحد يبالي ... وضعوني على شفير القبر وحافته , أرى قبري يُحفر أمامي . يا أبي أتحفر لي لتواريني ،  أنظر إلي قبري كأني أعرفه موحش , مظلم , مقفر. آه ... يا إلهي ما أوحشة ,  طين وتراب , صخور كبيرة تكتم الأنفاس ، هاهم انتهوا وللطين قربوا ,  نادوا إلينا بالجنازة , حملها الأقربون مسرعين ينتحبون , بكاؤهم يزيد  يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد , أنزلوني , استقبلني أبي وأخي الأكبر ,  وسدُّوا لي التراب , وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودَّعت الدنيا . وداعاً  أيتها الشمس , آه ... أيها الظلام , حلوا رباط أكفاني , قبَّلني أبي ودعا  لي , نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا جسدي ,  أصيح فلا مجيب , أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء , فإذا بالنداء لا يقرع  إلا آذاناً صماء . زادوا علي التراب , تراب فوق تراب , الكل يحثو حتى ردموا  الحفرة وأغلقوا معها آخر أنفاس الحياة , تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً , ذهبوا وتركوني أسامر الدود , استقبلني القبر بضمته , واللحد بغمته , أخذ التراب ينهال على وجهي ,  كفى أيها المستقبلون, أهكذا تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب : أما  سمعت في الدنيا ندائي (( ما من يوم يطلع فجره إلا وينادي القبر : أنا بيت  الظلمة , أنا بيت الوحشة , أنا بيت الدود , اسمع إلى ترحيبي : إذا وُضع  العبد الفاجر في جوفي قلت له : لا أهلاً ولا مرحباً , أما والله قد كنت  أبغض من يمشي على ظهري , إلي فقد وليتك اليوم فسترى صنيعي بك . فأضمه ضمة  حتى تختلف أضلاعه , ثم يوكل به سبعون تنيناً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به  إلى الحساب )) [ كما في سنن الترمذي ] .
 
هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني , ولكني تباعدت اللقاء  بل تناسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلاً : تعود , كلا قد  فات الآوان .
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني , صحت بأعلى صوتي : آه . آه لو أعود . آه . آه لو أعود .
 
 
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بُنيّ ما بك ؟ أبي ... أمي ... آه لو أعود .
بنيَّ من أين تعود ؟ أنت في البيت , تعلقت به يا أبي أنقذني , أبعد الدود عن وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك , تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة : آه لو أعود . أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم ..
تلمست أيديهم , عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة .
آه يا لله ! يا له من حلم ... ما أبشعه , بل وأوحشه , قد هزَّ كياني أرعبني  ومن الآخرة أدناني , جلست على فراشي , ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً  فاعمل .
 
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره : حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه  إلي الدنيا نزل في قبره , وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح { رَبِّ  ارْجِعُونِ } فيسمعه أهله فيفتحون له , وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه .  فلما استوحش داخله نادى { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد . وبعد زمن  طويل , سمعته زوجته ، فأسرعت إليه وأخرجته . فقال عند خروجه : ( اعمل يا  ربيع قبل أن تقول رب ارجعون فلا يجيبك أحد ) [ صلاح الأمة في علو الهمة ]
 
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة .
كسرت أشرطتي , وحرقت مجلاتي , جددت استقامتي البالية , قطعت حبل كل ودٍّ بزملائي القدامى, واتجهت إلى ربي : إليك ربي , إليك ربي .
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها , فوالله بعدها ما هممت بمعصية ..