عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2011, 02:38 PM
نقاء الروح نقاء الروح غير متواجد حالياً
طالبة جامعية
عضو مثالي لعام 2011
 
تاريخ التسجيل: Apr 2009
المشاركات: 3,789
معدل تقييم المستوى: 20
نقاء الروح is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الخامس



إياس : كنتُ .. كنتُ .. كنتُ .. ثم ماذا يا ريّان ، أظن اجترار الأحزان مهلك .. قاتل .. بل مغتال للبسمة التي نعيش بها في أوقات أنسنا ، وماذا نصنع بأحزان تجربة عشناها وانقضت ؟ لماذا نتذكرها فنتجرّع غُصتها كل مرة رغم أننا لم نعشها سوى مرّة ؟ دع المصائب تأتي وتتكالب على القلب فتتتكسر نصال بعضها على بعضها حتى نفيق وما في القلب أي نشابٍ عالق لم يعترك مع آخر على مكان انغراسه !

ريّان : صدقني أنا معك .. ثّمة الكثير من الأحزان تُهلكنا باجترارنا لمآسيها ، خصوصاً وأننا نبحث عنها بعد مضي السنوات في قمامة الذاكرة ، فنستخرجها مرة أخرى ونستحضرها في مخيلاتنا ونبدأ من جديد في خوض غمار تلك المأساة خيالاً ؛ ولربما دمعت العين وضاق الخاطر وتكدّر اليوم بطوله نتيجة لتلك الذكرى ، لستُ أتحدّث عن تلك الذكريات يا دكتور إياس ..

إياس : كم مرة قلتُ لك أن لا تناديني .. دكتور ؟ أنا دكتور هناك .. بين جدارن المستشفى .. عند التأوهات والآلام .. عند رؤوس المرضى الذين يطربون عند سماع " دكتور " .. أولئك الذين يرقبون أي بصيص أملٍ في الشفاء ، بل حتى ذلك المكان لا أحب أن أنادى فيه بما ناديتني ، أنا إنسان بسيط لا زلت أتعلّم من هذه الدنيا وأختبرها ، أكره الألقاب والرسميات التي تخلق الحواجز ولو لفظاً .. صدقني ، تأمل قولك : " أخي الدكتور إياس " ألا تستثقلها ؟ ألا تشعر بأن الطب قد حال بين إخوتنا ولو لفظاً ؟ أوليست أجمل لو قلت : " أخي إياس " ؟ أوليس الأجمل منها أن تكتفي بقولك : " أخي " ؟ ألا يشعرك هذا التمازج - ولو كان لفظياً - بيننا بالقرب ، إن كثيراً من الأشياء اللفظية التي لا نعيرها انتباهاً تقع في القلوب موقعاً لا نشعر به إلا بعد زمن !

ريّان : طيب .. طيب يا " أخي " ، كما قلتُ .. أنني أوافقك فيما ذهبت إليه من رفض اجترار الأحزان ، لكن ثمّة أحزان لا نجترّها .. لا نستخرجها .. لا نبحث عنها في زوايا الذاكرة .. هي تعيش دوماً على السطح .. تقتات من سعادتنا الداخلية وإن أبدينا الأنس والبسمة ظاهراً ، تلك الأحزان يجب .. ويجب .. ويجب أن نشاركها مع من يحملها معنا ، إن الأحزان كالأثقال .. كلما ازداد عدد حامليها كلما خفّ الحملُ على المحزون ، خصوصاً إن كان أصحابه من ذوي العصبة أولي القوة في العقل والإدراك ، أعتقد - واعذر تطفلي - أن ما تكتمه هو من قبيل النوع الأخير الذي يستلزم أن تزيح منه شيئاً عن نفسك ، وها قد أظفرك الله بفضوليّ يحبّ الثرثرة مثلي .. فما بك يا صاحبي ؟

إياس : امممففف .. سأحكي لك على لا أن تسخر مني ولا تتخذ مني موقفاً ساخراً أو ناقداً ، هي أحداث عشتها مضت وانقضت بخيرها وشرّها .. وصوابها وخطئها .. وعجرها وبجرها ، لكنها - وبتفاصيلها - ما تزال عالقة في ذهني حتى الآن ، حاولتُ أن أصرفها بكثير من الصوارف ففشلت ؛ غيرتُ مسكني في مدينتي .. ثم غيّرت مقرّ عملي .. ثم غيّرت مدينتي بأسرها .. ثم تزوّجت .. ثم قصدتُ الإنجاب .. وها أنا ذا أكابد جرحاً في صدري ما زال يرعف حتى الآن ، جرحٌ رائحته وطعمه ولونه واسمه " رؤى " ، فتاة عشقتها من كل قلبي رغم أني لم أرها ، لم أحادثها بالهاتف يوماُ ولم أفكّر ، بل إنني كنت أحياناً أراها أمامي فأشيح ببصري عنها تطهيراً لها واحتراماً لذاتها النقيّة .

ريّان : وما قصّة رؤى هذه ؟ يبدو أنني كنت أعيش مع روميو جديد دون أن أشعر ، لا تقل لي أنها زميلة دراسة في الكلية أو طبيبة أعجبتَ بأخلاقها في المستشفى أو حتى ابنة جيرانكم !

إياس : لا ليست كذلك .. بل هي شيء آخر تماماً على الأقل في خيالاتي الحالمة ، لكني لن أحكيها لك الآن فهاقد وصلنا إلى البيت ولن نبقى في السيارة تحت هذه الشمس المحرقة ، وكذلك لن أحكيها لك في البيت الآن لأنك أخذتني من زوجتي لتوصلني إلى البيت وأرتاح .. لا أن أحكي لك قصّة .

ريّان : طيب .. والغداء ؟

إياس : لستُ جائعاً بقدر اشتهائي للنوم في هذه الساعة ، سأذهب إلى شقتي وأقيل فيها حتى صلاة العصر ، لا تنسَ أن توقظني مع الأذان ، فأنا أريد أن أغتسل قبل ذهابي إلى المسجد ، فأنا .. وأنا أنا .. لا أطيق رائحة نفسي !

ريّان : وهو كذلك .. نوماً هنيئاً يا روميو .. هههه .
رد مع اقتباس