إذا أردنا أن نصف كتابات أنيس منصور السياسية باختصار لا يتعدى خمسة أسطر فإننا نقول إن هذه الكتابات قد تفردت بحس إنسانى عال، وبروح فلسفية متمردة، وبوازع أخلاقى قوى، وبانتماء وطنى عميق، وبفهم تاريخى أصيل... ولم تجتمع هذه الملامح الخمسة فى كتابات غيره من معاصريه على هذا النحو الجميل الذى تآلفت به فى آثاره السياسية الرفيعة. كان أنيس منصور قد بدأ الكتابة المنتظمة فى السياسة بعد ما استقر له أسلوبه وبعدما كسب جماهيرية عريضة لم يكتسبها غيره من قبله، وهكذا لم يكن من الصعب عليه أن يكتب فى السياسة على نحو ما يريد، ولم يكن من اليسير عليه أن يضحى بالصورة الذهنية التى تكونت عن قلمه وميوله الفلسفية والسياسية والتاريخية والوطنية والخلقية، وسرعان ما وجد أنيس منصور نفسه يكتب فى السياسة بأسلوب جديد يرفع من قدر الحقيقة حتى لو كان هذا الانحياز للحقيقة جالبا للمتاعب والمشاكل.
كان أنيس يعى فى تلك اللحظة أن الحقيقة لن تسعفه إذا هو خانها، وأن مصداقيته لا تحتمل الأكروبات المغلفة بالحديث عن الظروف الجغرافية والتاريخية وهى الأكروبات التى كان غيره يمارسها دليلا على البراعة فى الفهم أو التناول أو العرض أو الاستعراض على حين كان أنيس يدرك أن الناس قد أقرت ببراعته وأنه كاتب كبير أو قدير، كما كان يدرك أن تصوير الهزيمة نصرا والنصر هزيمة ليس من قبيل الأمانة ولا التاريخ ولا الوطنية ولا الأدب ولا التفلسف ولا السياسة وإنما هو نوع خطر من أنواع الإدمان للمخدرات الرخيصة المؤذية للوعى والصحة والوجدان والعقل على حد سواء.
كان أنيس يدرك الدوافع الحقيقية للتاريخ وصناعته، وكان يعرف أن النفس البشرية هى العامل الأول فى صناعة التاريخ قبل ما قد تقول به حقائق الجغرافيا والتاريخ، وكان قادرا على نحو لا يدانيه فيه أحد على تحليل هذه النفس وتحليل مواقفها وأثرها فى التاريخ والجغرافيا على حد سواء.
كان أنيس منصور يدرك أن الجماهير تعامل غيره معاملتها للمحامى الذى لا ينتظر منه إلا الانحياز للطرف الذى يعمل لحسابه بينما هى أى الجماهير تنتظر من أنيس الحكمة لا الحقيقة فحسب، كان أنيس واعيا لقدرة قرائه على النقد بفضل ما أوتوا من قدرة على القراءة وبفضل ما دربهم عليه هو نفسه من القدرة على تقليب الوجوه المختلفة من أجل تغليب الحق على الزيف وتغليب الحقيقة على الباطل، وتغلب الزبد على الزبد ولهذا فإن أنيس لم يكن مستعدا على أى نحو من الأنحاء لأن يخون ثقافته، ولا المنطق الذى عاش من أجله، ولا المعرفة التى نشرها ولا الفلسفة التى بشر بها، ولم يكن أنيس يرى معاصريه الذين سبقوه إلى الكتابة السياسية قامات ينبغى الحذو على ما أنجزته أو ما حققته أو صورته أو رسمته وإنما كان ينظر إلى هذا الاجتهاد المراهق الذى صور لكثيرين على أنه إعجاز نظرة الأستاذ الجديد إلى محاولات التلميذ القديم الساعية إلى التميز الفلسفى من دون صدق عقلى والطامحة إلى الوجود الفلسفى من دون صدق نفسى.. ولهذا السبب كان أنيس لا يبخل من آن لأخر بالسخرية الممتعة من التناول العقيم لقضايا السياسة والوطن، وكان يغلف سخريته بكل ما يفقدها كما كان يغلفها بعد ذلك بكل ما يحفظ عليها جديتها وجدتها، ولهذا كان أنيس فى مهاجمة مخالفيه من كتاب السياسة يبدو وقورا وغير متجهم فى الوقت الذى كان يبدو فيه متأملا وغير متبرم.
***
بدأ أنيس منصور حياته العامة قريبا من الصحافة المرتبطة بالسعديين فى جريدة الأساس وفى جريدة أخبار اليوم، وقدر له أن يعيش صالونات فكرية يومية تموج بما كان قادرا على تقييمه ونقده، وكان يرى هؤلاء السعديين المهرة وقد تمكنوا من الحكم ونجحوا فى بعض ميادينه على الرغم من خروجهم على الوفد، ولهذا فإنه رزق القدرة على البحث عن الايجابيات بعيدا عن الأغلبية التى يمثلها تيار الوفد الوطنى ونهره السياسى بطبعة الجارف، لكن أنيس لم يقع فيما استسهل أنداده الوقوع فيه، ولهذا فإنه لم يشغل باله بعداء الوفد ولا بالبحث عن مثالبه ولا بتأويل إيجابياته إلى سلبيات على نحو ما وقع الآخرون فى ذلك الفخ الذى جعلهم حتى الآن يعادون الحركة الوطنية من ناحية ثانية ويعادون التوجه الليبرالى من ناحية ثالثة.. كان أنيس على النقيض يرى السعديين أقلية وصلت إلى الحكم وسرعان ما سوف تتركه لأن حقيقة التاريخ تقول بهذا، ولأن الحقيقة الفلسفية والوجودية تقول بهذا، ولهذا فإنه لم يعان عذابا ولا حيرة حين عاد الوفد إلى الحكم فى 1950 ولا حين قامت حركة الجيش فى 1952 ولا حين تعرضت لما تعرضت له فى 1954.... كان أنيس يرى هذا كله فى إطار معرفى كفل له الفهم والتوقع كما كفل له المتعة العقلية على حين كان كل موقف من هذه التحولات يكلف الآخرين شططا فى التحول بأقلامهم وتوجهاتهم بل وبأرواحهم ونفوسهم.
كان أنيس يدرك مصائر الأمور وطبائع الأشياء وكان يبتسم حين يرى غيره يؤمل من المرأة أن تكون عدسة، ومن العدسة أن تكون مرآة، كما كان يسخر من كل الذين يعتقدون فى اشتراكية تتوجها رأسمالية الدولة، ومن كل الذين يعتقدون فى ديمقراطية تتوجها دكتاتورية الثورة، أو الذين يعتقدون فى شيوعية تتوجها وطنية الأهداف... كان يعبر بكل ما أوتى من دهاء فى التعبير عن استحالة كل هذه الأوهام التى كان يتبناها ويدعو إليها كل الذين لم ينالوا حظه من الدراسة أو القراءة أو الفهم أو البحث أو الجدل... وإذا كان هناك كاتب سياسى نفعه علمه وإيمانه فإنه أنيس.
وكانت ثقة أنيس بما تعلمه وأدركه تجعله ينظر إلى مخالفيه الذين يرأسونه أو يسبقونه نظرة العارف بالحقيقة إلى المتعذب بالظنون، وهكذا تحول عمله الغزير إلى حصن حماه من أن يقع فريسة للإحباط الذى سيطر على غيره ممن لم يصلوا إلى ما وصل هو إليه وهكذا قدر له أن يعيش حقبة الناصرية وهو يتأمل مع أقل قدر من الألم، وأن يعيشها أيضا وهو يفكر مع أقل قدر من المرارة.
لكنه فى الوقت ذاته كان يجيد التعبير عن الهجرة متخذا سبيله المزعوم فى الهجرة إلى الارواح والاشباح وإلى الأطباق الطائرة والهابطة من السماء والعائدة إلى السماء وكان فى كل هذا مجيدا على نحو ما كان يجيد السفر والحديث عن الرحلة وكان حفيا إلى أبعد حدود الحفاوة بأن يبث فى العقل العربى، ويزرع فيه فكرة النقد والاختلاف حتى لو كان التعدد والاختلاف خيالا بعيدا عن الواقع الذى كان يكرس الشمولية والنمطية على نحو كفيل بتدمير جزء كبير من إنسانية الإنسان.
ولما جاءت حقبة السادات كان أنيس هاديا فى هدوء، وكان قادرا بحكم قربه من الرئيس على أن يصوغ التعبير عن الفكر الساداتى فى مرحلة مهمة لكنه آثر الصناعة على الصياغة وشارك بكل معارفه فى صناعة فكر بهر العالم كله فى المبادرة وما أعقبها، وعرضت على أنيس منصور فى السبعينيات مناصب كثيرة آثر أن يرفضها جميعا لأنه كان يرى نفسه فى نفسه ولم يكن يراها فى أعين الآخرين، ولهذا السبب فقد عاش أنيس منصور حتى لحظاته الأخيرة معنيا بأن تزداد قدراته وتفوقاته وإلماماته وإسهاماته، ولم يشغل نفسه بأن يدافع عن حقبة، ولا أن يصور شخصا على غير حقيقته.
***
أذكر أن أحد أساتذتنا الكبار سألنى ذات مرة عما أعتقده سببا فى إهمال أنيس لما كان قادرا عليه من تصوير زعيم عظيم تصويرا يتفوق على تصوير غيره من الكتاب لزعيم عظيم آخر.
قلت بدون تردد: إن السبب أنه أنيس.
قال كاتبنا الكبير: لعلك أو كأنك تريد أن تقول إن من واجب الزعيم تجاه نفسه أن يصنع الكاتب النجم الذى قد يرد له الجميل وألا ينتظر من النجم الحقيقى أن يكون محاميه أمام التاريخ..
وقلت: لقد كان أنيس استثناء فى بابه،ولولا أنه عاش الفترة السابقة بشمولية آذت روحه وضيقت صدره ما أقبل على رئيس ولاكتفى من الدنيا بصداقة بعض الأمراء الأثرياء بالوراثة فحسب.
قال أستاذنا: لكنى أتحدث عما ترك أنيس وعما ترك الآخر من كتابات عن الزعيمين ألا ترى عناية الآخر بتفاصيل كثيرة على مدى سنوات جاوزت الثلاثين بينما لا يطرق أنيس هذا الميدان أبدا تاركا زعيمه للذئاب والثعالب والنسور وأحيانا للكتاكيت.
قلت: هذا هو الفرق بين المثال الذى صنع التمثال مرة واحدة، وبين المرمم الذى يعود من آن لآخر إلى تمثال قديم ليرمم كثيرا من الشروخ التى يظهرها مرور الزمان.
قال أستاذنا: لكن الآخر يعنى بأن تظل الصورة المعجزة بل المتألهة متماسكة وطاغية فى حضورها على نحو ما رسمها هو.
قلت: هذه هى وظيفة الرفا الذى يرفو المتهالك من الثياب بينما يرى أنيس نفسه عن حق صاحب خط الأزياء الأرفع قيمة.
قال أستاذنا: إن الآخر معنى بتماسك الصورة وحمايتها من الرياح لكن أنيس يترك الرياح تعبث فى الشتاء بالأحكام وتعبث فى الصيف بلون الملامح.قلت: إن أنيس لا يجافى الطبيعة ولا يحارب طواحين الهواء، إنه يعرف قصة دون كيشوت ولا يحب أن يكرره.
***
لم يمض على حديثنا هذا عام واحد إلا وأخرج أنيس منصور من مجلس الشورى المصرى فى تجديد لم تكن ظروفه تسمح بأن يفقد مجلس الشورى عضوية قامة كبيرة كقامة أنيس منصور لكن المذهل أن ذلك المجلس أفقد عن عمد عضوية كل القامات الأخرى الموازية لأنيس منصور فى ظل عبث غير واع اندفع إليه أقطاب لجنة السياسات دون أن تأتى اللجنة بتلاميذ لهؤلاء الذين أبعدتهم.
وعاد الكاتب الكبير فى لقاء تال ليذكرنى بحوارنا السابق وليسألنى: هل كنت تتوقع مثل هذا التصرف حين سألتك وأجبتنى مستطردا إلى موقفه من العصر الحاضر ومستقبله؟
وأجبته: بأن قراء أنيس فى ازدياد على الرغم من كل الحروب الخفية الممولة التى وصلت إلى حد عشرات الملايين كى يتوازى غيره معه، وعلى الرغم من أن الحياة تقسو علينا كبشر كما تقدم بنا الزمن.
قال أستاذنا الذى كان بحكم مواقعه العالية يعرف أكثر منى: هل تعتقد أن للحروب على أنيس علاقة بما يخطط له من أجل مستقبل مصر من تمديد أو توريث.
قلت: إنى أعتقد فحسب، ولكنى أملك الأدلة التى لن يصدقها أحد عن علاقات مشبوهة لا يتصورها أحد.
قال: وهل يعرف أنيس نفسه ذلك.
قلت: يعرف معظمه.
قال: إن هذا لا يظهر أبدا فى كتاباته.
قلت: لا أنه لا يفتأ يردد قوله الشهير عن فروق التوقيت.
قال: وهل تعتقد أن هذه هى فلسفته.
قلت: لا أعتقد.
قال: فما فلسفته إذا.. أو قل لى كيف تراه ينظر إلى ما نحن فيه الآن من قلق على المستقبل.
قلت: لا أكون ظالما لو أنى قلت إنه يعلق أمام ناظريه لوحة جميلة لكن غيره لا يراها كاملة لأنه كتب عليها وفى آخرها سطرا بالحبر السرى الخاص الذى لايراه سواه:
ليس الغبى بسيد فى قومه
__________________
اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلاتبغضوهم هيا بنا نتعلم الديمقراطية <!-- Facebook Badge START --><!-- Facebook Badge END -->
|