الإمام الشافعي
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس. ولد في غزة عام 150هـ لأسرة فلسطينية فقيرة، توفي أبوه وهو صغير، فانتقلت به أمه إلى مكة المكرمة، ليعيش مع أهله هناك حيث ينحدر من سلالة قرشية يتصل نسبها بالرسول صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف. قاسى الشافعي من الحرمان، فكان يجمع الخزف (الفخار) وقطع الجلود وسعف النخيل والعظام ليكتب عليها، ويذهب إلى الدواوين ويستوهب أهلها أوراقاً يكتب عليها.. وكان ذا حافظة قوية، حتى قيل أنه حفظ كتاب الموطأ للإمام مالك في تسعة أيام، كما كان يحفظ القرآن الكريم كله، إذ حفظه أولاً في الصغر، وكان يجيد اللغة العربية إجادة تامة، إذ رحل إلى قبيلة هذيل مدة من الزمن، تعلم من كلامها الفصيح، الذي كان أفصح لغات العرب في ذلك الوقت، وحفظ أشعار قبيلة هذيل حتى قال فيه الأصمعي: إنه صحح أشعارها.
أذن له بالإفتاء في مكة عندما كان شاباً لا يتجاوز العشرين لكنه آثر الهجرة في طلب العلم، فانتقل إلى المدينة المنورة وتلقى العلم على يدي الإمام مالك؛ الذي رحب به وقربه من مجلسه، بعد أن اختبره. وقال له يوماً: يا بني، إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية.
على العكس من مالك، فقد كان الشافعي يكره الشهرة، ويلبس الثياب البسيطة، مع مقدرته على لبس الثمين منها، وكان يلبس خاتماً في يده اليسرى كتب عليه: "كفى بالله ثقة لمحمد بن إدريس".
وكان كريماً سخياً، فقد جاء إلى مكة قادماً من صنعاء وفي يده أكثر من عشرة آلاف دينار، وزعها جميعها بين الفقراء، قبل أن يغادر مكانه، وعندما كانت تأتيه الهدايا الثمينة من الملابس خلال إقامته في مصر، كان يقسمها بين الناس، غير عابئ بقيمتها، فما يستر الجسد فهو لباس.
كان متواضعاً يعرف قيمة النقاش ومعناه، فما أسهل أن يتنازل عن رأيه، إذا تبين أن هنالك رأياً أصوب منه، وكان يقول: وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهرالله الحق على يديه، ووددت أن الخلق تعلموا هذا العلم حتى لا ينسب إليّ منه حرف واحد، ووددت أن كل علم يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني قط، فما ناظرت أحداً على الغلبة قط.
عرف عنه حضور البديهة، مع الدقة في الإجابة، فقد سأله رجل ذات يوم، كيف أصبحت؟ فتأمله الشافعي ملياً ثم قال: كيف يصبح من يطلبه ثمانية: الله تعالى بالقرآن، والرسول بالسنة، والحفظة بما ينطق، والشيطان بالمعاصي، والدهر بصروفه، والنفس بشهواتها، والعيال بالقوت، وملك الموت بقبض روحه؟
وسأله آخر في مرضه الذي مات فيه السؤال نفسه كيف أصبحت؟ فرد قائلاً: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللأخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله جل شأنه وارداً، ولا والله ما أدري، هل تصير روحي إلى الجنة، فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها. ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قسـى قلبـي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعـاظمـني ذنبـي فلـما قـرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل تجـود وتعـفو منـّةً وتكرّما
ومات غروب يوم الخميس في آخر ليلة من شعبان سنة 204هـ عن أربعة وخمسين عاماً.
جمع الشافعي بين فقه أهل العقل والرأي، وفقه أهل النقل والحديث، وقد جعل السنة في منزلة القرآن، لأنها مبينة له ومفسرة،ويقول: "هل لأحد مع رسول الله حجة"؟ وكان يأخذ بالإجماع وبعده حجة بعد القرآن والحديث. ولكن بقيود وشروط، حتى لا ينتقل أمره إلى دعوى أو فوضى. وكان يكره الابتداع في الدين، ومن هنا جاء كرهه لعلم الكلام ودعاته وقال: إنهم يستحقون التشهير والضرب، لأنهم تركوا الكتاب والسنة.
ومن أقواله المشهورة، أنه لا يجوز لأي إنسان أن يقول برأيه في الشريعة، إلا إذا كان أساس هذا الرأي معتمداً على القياس- وهو الحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم- وكان لا يقبل بالاستحسان، ويقول: من استحسن فقد شرع، ولم يجز كتابة عقد الزواج بغير اللغة العربية للقادر على التكلم بها، وأوجب على كل من يتعرض لتفسير القرآن الكريم أن يكون حجة في اللغة العربية، لأن القرآن تنـزّل بهذه اللغة.
وكان يرى أن الخلافة تكون في قريش، وتكون بالبيعة، إلا إذا دعت الضرورة فتقوم بغير البيعة، فإن غلب أحد الناس بالقوة، واجتمعت عليه كلمة الأمة جازت إمامته.
رفض الشافعي مثل سابقيه قبول القضاء عندما عرض المأمون عليه أمره، وكان هذا هو سبب هجرته من العراق إلى مصر، خوفاً على نفسه من بطش الخليفة لرفضه القضاء.
ومعروف عن الشافعي أنه أفتى في مصر في موضوعات كان قد أفتى فيها بالعراق ولكن بفتوى مختلفة، وعندما سئل عن ذلك أجاب، لقد تغير الزمان، وتغير المكان، وتغيرت أحوال الناس، كما تغير علم الشافعي، فازداد علماً وخبرة.