الفصل الخامس عشر
إياس : جنون .. وجنون فقط ، انقطعت عن دوامي أسبوعاً وكذلك غبت عن جامعتي ، كثيراً ما أجلس في صالة البيت لأخرج عن جوّ غرفتي التعيس .. وكثيراً ما تخنقني العبرة فأقوم نحو غرفتي لأخرج ما في صدري ، أشعر بأن الدنيا كلها انطبقة عليّ فلا مهرب لي منها ، أحس أني أتنفّس من ثقب إبرة صغيرة .. بالكاد يكفي الهواء الداخل منها لأن يشفي حشرجات صدري الباكي .
صرتُ أخرج إلى الكورنيش لأسير فيه ، وما أكثر ما ابتعدت عن أعين الناس وجلست على أحد الصخرات المرصوفة على شاطيء البحر وبدأت أبكي ، دمع الرجل عزيز يا ريّان .. دمع الرجل ثمين .. الرجل لا يبكي إلا من عظيم يهزّ قلبه وروحه ، لم أكن أبكي لأن أمنية ما لم تتحقق لي فقط ؛ فهذا شيء اعتدناه في هذه الحياة ، كنت أبكي لشيئين اثنين ...
أبكي لأن رؤى هي من ردني .. هي من جرحني ، وكان السبب أنها " لا تريدني آنا " ، وماذا فيّ أنا ؟ بقدر ما وهبتها ساعات التفكير والحب والخيال .. تركلني بقدمها ؟ أهذه هي طبيعة المرأة التي يخلص لها في الحب حبيبها ؟ أيلزم أن يقسو الرجل على المرأة لتسكن إليه ؟ أيلزم أن يرتفع عنها لتهفو نحوه ؟
وأكبر من رد رؤى لي .. شعرت بحقارتي عند ربي ، شعرت بأنه غاضب عليّ ، شعرتُ بأني لا أستحق رحمته وكرمه وجوده ، شعرت بأن لدي معصية كبيرة جداً .. جداً منعت عني فضل ربي ، أنا مؤمن أكثر من أي شيء آخر أن رحمة ربي واسعة وأن ربي حكيم عليم .. ولذا .. ما كان ليمنع رحمته عني إلا من جرم فعلته .. جرم عظيم .. صرت أبكي وأستغفر ربي .. أناديه من قلبي .. ( ربِ لا أريدها .. ربِ أريدك أنت .. ربِ أنا تائب .. ربِ بصّرني بذنوبي .. ربِ اغفر لي ما علمته وما لم أعلمه ) .. أريد أن أعرف ذنبي .. لا لأنالها .. ولكن أستغفر منه .. لأستغفر منه وأتوب إلى ربي
اعتنق إياس المصحف الذي كان بيده مرة أخرى .. بقوة ، وشرع يبكي أمامي بكاء طفلٍ صغير ، يبكي ويجهش بالبكاء وصدره يهتز ويرجف حتى خفت أن يصيبه شيء من ذلك فابتدرته مفاتحاً له ..
ريّان : أهذا هو الجنون الذي تتحدث عنه ؟ هذا ليس جنوناً .. ما أسعدك إذا بدأتُ تنقب في أخطائك ولم تبتعد عن ربك ، نحتاج كثيراً إلى تفكيرك هذا يا أخي في تصحيح ما نقع فيه من أخطاء ورفع ما يُلمّ بنا من مصائب وكوارث !
بدأ يسكن من بكائه رويداً .. رويداً - وأنا أغبطه على حساسيته في شعوره نحو ربه - ، ثم رفع رأسه بعد أن هدأ قليلاً ونظر إليّ بعينيه الحمراوين الباكيتين ..
إياس : لم أنتهِ بعد .. لم أنتهِ ، ما رأيك لو عدنا إلي البيت لنتحدّث هناك فأنا أريد أن أريك شيئاً ؟
دخلنا شقته ثم قادني نحو مكتبه الذي توسّط مكتبته ، جلست على الكرسي بجانب الطاولة منتظراً له ، وتوجه هو نحو أحد رفوف مكتبته وسحب كتاباً طبيّا ضخماً كبيراً وأتى به ووضعه على الطاولة ، ما زلت أذكر شكل الكتاب الضحم الكبير والذي يُخيّل إليّ أن عدد صفحاته يتجاوز الألفي صفحة ، وسط الكتاب بيننا ثم فتحه من المنتصف وأخرج ورقتين ثنتين ، أخذ بكل يدٍ ورقة ورفعهما أمامي وقال بصوتٍ هادئ خافت بعد أن عقد حواجبه ...
إياس : هذا هو الجنون !
ريّان : لم أفهم ! ورقتين .. وردية ورصاصية .. ما علاقة الجنون بهاتين ؟
إياس : بعد أسبوع من غيابي من دون عذر .. عُدتُ إلى المكتب مرة أخرى ، وكثيراً ما كنتُ أفكّر بتلك التي لا يفصلني عنها إلا حاجز خشبي لو رميت عليه أحد الملفات المرصوفة فوق بعضها أمامي .. لتهشّم ، كنتُ أفكّر بها كثيراً .. في عملي وجامعتي .. وأكثر ما كانت تتداعي صورتها الخياليّة إلي وأنا أقرأ هذا الكتاب الضخم .. كنتُ أراها في كل صفحة منه حتى أني لربما أقضي في الصفحة الواحدة ساعة كاملة ، كان تفكيري بها مؤثراً كثيراً على إنتاجيتي وعملي وبادياً كذلك على صفحة وجهي ، فجاءني الفضولي - هو نفسه الأول ! - يسليّني ويُحدّثني ، وكان مما أخبرني به أن زميلنا في المكتب / سلمان خطب الأسبوع الماضي وأقام احتفالاً صغيراً في المكتب بهذه المناسبة في غيابي ، واشار إلى وقوع أحداث دراماتيكية في خطبته ، كان يريد الزواج من ابنة خالته التي كان يحبها مذ كان صغيراً فمنعه زوج خالته من ذلك بحجة أنها هي التي لا تريـد .. بينما الحقيقة أنه هو لا يريـد أن يزوّج ابنته من صحفيّ - كما يقول - ، وهنا لم يستسلم سلمان للأمر بل بحث عن طريقة حتى وصل إلى ابنة خالته واستفسر منه فإذا هي موافقة وإنما الرد كان من أبيها ، فبحث عن من يتوسّط له عنده .. وفعلاً تمت الخطبة !
ريّان : صاحبك هذا فضولي ملقوف درجة أولى !!
إياس : جاءني إبليس - نعوذ بالله منه - وقال لي .. ولمَ لا تفعل ما فعله سلمان ؟ بدأت أفكّر جدياً خصوصاً وأنه لا يلزمني ركوب مشاق للوصول إلى رؤى .. فهي هاهنا بجانبي ، وأيضاً هذا ينفي عني الشكوك في كونها من رفضني وردّني ويجعلني أكرهها ويقلب حبها في قلبي بغضاً .. ربما ، بداية استصعبتُ ذلك ورأيته فعلاً مشيناً فما عند الله من الفضل والخير والبركة والنعيم لا يُنال بسخه وغضبه ، لكني استمرأتُ ذلك مع تكرار التفكير وتزيين الشيطان لي ذلك العمل ، ولله در ابن القيم إذ يقول ( دافع الخطرة ..فإن لم تفعل صارت فكرة .. فإن لم تفعل صارت همّاً وإرادة .. فإن لم تفعل صار عملاً وسلوكاً .. فإن لم تفعل صار عادة وسجية ! ) .
ريّان : هنا الجنون بعينه .. وماذا فعلت !!؟
إياس : بلاوي !!