الموضوع: بكل حرف حسنة
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 21-12-2011, 06:22 PM
المفكرة المفكرة غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 1,413
معدل تقييم المستوى: 18
المفكرة is on a distinguished road
افتراضي

درس
جلسنا ننتظرها في المكان المخصص لدرس القرآن ... تذكرت أياماً كان لي فيها شغف بقراءة كتاب الله. ذاكرتي القوية تعي ما أقرأ ، فأحفظ ما وسعني إلى ذلك سبيل، أنهي اشتغالي بأشغالي لأقرأ و أحفظ .
ثم جاء غول الحمى ، استولى على أعصابي و تركني هباءة من قوة و إدراك و وعي، أضغاث أحلام . تسللت رويداً فسلبت بضع أيام كل شهر ثم اشتدت فخطفتها من كل إسبوع. ثم احتلت جسدي و لم تبق ِ مني سوى بضع ساعات من يقظة كل أسبوع.
لم أبال ِ بمعظم ما أخذت، فقط روعتني حين سرقت كنزي ، جردتني من الغنى و ألقتني في أرض الفقر ، ما أعتز به و أتيه به على أقراني، أشعر أنه يكون لي شأن بفضله: عقلي و ذاكرتي، ما ظننت أنني أحسن به ، عكفت على القرآن و الشعر و ما يزعمون أنها كتب لأدباء عظام حشوتها به ، أنظر إليه يتبدد فتملأني الحسرة فتترك أثراً أصعب من المرض ، تمر السنون و تتراكم العقود و أنا في أرض التيه.
تتبدل الأيام ، ألمح إشارات في طريق آخر, سلكته .. ينتهي بي إلى طبيبة تعالج بعلاجات غير تقليدية تنقلني من عتبة الموت للجهة المقابلة على عتبة عالم الأحياء ، يلفظني المرض فأرتمي بوهن على شاطئ الحياة. أستطلع عالم الأحياء و أحن لأيام كنت فيها أحفظ ممن حولي، بقايا إرادة تسندني و عزم أن ألملم بعض جواهري .. أعيدها لصندوقها .
لفتت إنتباهي فور دخولها ، جنان ثابت و جلباب واسع أسود و طرحة بيضاء . تتلو علينا الآية من سورة يوسف فنردد وراءها نسترجع أحكام التجويد و معاني الآيات الكريمة. تشع عينيها نوراً خاصاً ألمحه إذ تلقي الآية.
جلسنا نحفظ السورة و نلقيها، يتهامسن فيما بينهن و ينقل الهواء اللطيف همساتهن لأذني. لم تعجبها فعلة يعقوب، كيف فضل يوسف على إخوته ، هو من بذر الشقاق بينهم ! يوسوس خاطر لي أنه لا يملك أمر قلبه. تشع عيناه إذا نظر لمن يحب، تنضح أعضاؤه بالمودة و تنطق بها فعاله، لم يكلف الله نفساً إلا ما تطيق.
دوري ، لأتلو بعضاً من آيات السورة مما حفظته.
_ الله اللطيف الخبير ، جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، رب الملك و الملكوت اجمع علي ضالتي اطمئنان قلبي بذكرك و صوتي يلقي كتابك. و ثبّت حفظاً لم يتقنه قلبي.
قرأت حزن يعقوب إذ يأخذون ابنه الأثير بعد يوسف "قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم. و تولى عنهم و قال يا أسفي على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين. قال إنما أشكو بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون" الآيات 83 إلى 86 من السورة
تركتني أمضي فتوقفت حيث انتهى الحفظ . قالت : سرحتُ مع صوتك، أثقلته المشاعر ،
_ أجل ، نفس الوجع و الحنين ، و أنين تردد و بكاء كاد يذهب ببصري مثله ، و رغبة فيما لا سبيل إليه عند البشر و تطلع للمولى أن يحضره كما جمع يعقوب بابنه.
خير خلق الله ابتلاهم المولى و مايز أقدارهم و رفعهم على العالمين و شاب نشأ في طاعة الله بعيداً عن أبويه لم تفتنه الدنيا فضـّل السجن على كسر حدود الله. تجلدي يا نفس فهذا خبر امتحان بشر كرام ، يخبرك صواب الإجابة عنها ، تعلمي علك تصيبي بعض نجاحهم ، و يؤول حالك لبعض صلاحهم.
كيف فقدتهم؟ .. اغتربوا و هم حولي ، لا أذكر كيف بدأت تلك الهوة ثم ازداد التيه، نبحث فلا نرى اجتماعنا... مرضي فرقهم على نحو ما ... بل كنا مرضى قبل هذا البلاء ، فجاء مرضي قاسياً كالكي و كان شفاء.
رفعت رأسي من المصحف أنتظر أن تصحح لي أخطاء القراءة ، فاجأني ردها: أحبك في الله. ثم استدركتْ : أحبكن جميعاً و لكنني أخصك بمعزة خاصة. قرآن رب العالمين جمع غريبتين ، ألف بين قلبين . لن أجيبها رغم أنني أكن لها من المشاعر مثل ما تقول. غشيت اللحظة سكينة. تآلف يرضي البر الودود .
وعدت أن تساعدني في استعادة ما تسرب من عقلي من كتاب الله و فعلت .
************************
تلوت عليها سورة الإسراء ، كانت جزءاً من ملفات ذاكرتي ، استبد بها القلق فألقاها بعيداً ، شددت همتي شهرين متواليين فأستعدتها . صوتي يفيض ثقة و دفء و نباهة ، لنصف ساعة كنت فصيحة و نبيهة ، ما تمنيت أن أكونه في عمري المديد ، تجسد لبضعة دقائق !
************************
رد مع اقتباس