القراءة الواعية
لماذا نقرأ ؟
الإنسان متسائل بالفطرة ، تواق إلى اكتشاف المجهول بالطبيعة ، وحين يرتقي في معارج الحضارة ، يتحول لديه كثير من المعارف العلمية من معطيات ممتعة ومرفهة إلى ضرورات حياتية ، حيث يتوقف عليها نموه الروحي والعقلي والمهاري.
والحضارة ليست في جوهرها الوصول إلى معلومات جديدة ، وإنما توظيف المعارف المتاحة في تحسين نوعية حياة الناس والارتقاء بجوانبها المختلفة ، من هنا فإن أهداف الناس من وراء ( القراءة) عديدة ، تنوع بحسب وضعية القارئ ، وما يؤمله من وراء مطالعة كتاب ما.
الظروف الحياتية التي يمر بها كل واحد منا ، تجعل الأهداف الباعثة على القراءة تتفاوت تفاوتاً بعيداً ، فقد تكون القراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم ، وقد تكون من أجل الحصول على معلومات حول موضوع ما ، وقد يكون من أجل التسلية أو رفع الحرج ، أو الرضوخ لعادة معينة ، أو ملئ الفراغ ، وقد تكون من اجل متعة روحية أو عقلية ، أو تلبية لمتطلبات تطور مهني للمرء ، أو استجابة للشعور بالواجب ، أو لإظهار حب المعرفة والتشبه بأهلها.
وكثير من الناس لا يعرف لماذا يقرأ ، ولا يبالي بمساءلة نفسه عن الهدف التفصيلي الذي يقرأ لأجله ، مع أن تحديد ذلك بدقة مهم جداً لتحديد ما يلائم الهدف من أنواع الكتب وأنواع القراءة ومستوياتها .
ويمكن أن نقول: إن الأهداف العامة لقراءة معظم الناس ثلاثة، وهي:
1- القراءة من اجل التسلية ، وتزجية الوقت وملء الفراغ . وهذه القراءة الأكثر شيوعاً بين الناس. وتثبت بعض الإحصاءات أن نحواً من 70% من القراء يتجهون إلى القراءة من اجل التسلية ، فهناك أعداد هائلة من الناس تتجه إلى قراءة القصص والروايات والمسرحيات والجرائد والمجلات ( الخفيفة ) ، والسبب في هذه الوضعية أن القراءة من اجل التسلية ، لا تحتاج إلى أية مهارة ،
ولا تكلف جهداً يذكر ، إذ بإمكان القارئ أن يلقي بالكتاب متى ما شاء ، وان يقنع منه بأية فائدة يمكن أن يحصل عليها ، حتى إن أكثر الكتب صعوبة يمكن أن يتم الاطلاع عليه من اجل التسلية.
أضف إلى هذا أن السواد الأعظم من الناس لا يملك أية أهداف أو محاور معينة ، تلزمه بمطالعة نوع معين من الكتب ، أو تلزمه بوضع برنامج قرائي محدد ، وهذا يدفعه دفعاً إلى قراءة أي شيء يقع تحت يده ، وسيقرؤه باهتمام من درجة اهتمامه باختياره!.
ومع هذا فإن من اجل التسلية ، لا تخلو من فائدة فالقارئ قد يتخلص بها من الفراغ الذي يؤدي إلى الشعور بالتفاهة ، وقد يشغل بها عن ملء فراغه بأشياء ضارة ، وهي بالإضافة إلى هذا قد تكون علاجاً لبعض الأمراض العصبية ، فالخرف الذي يصيب كبار السن يعالج اليوم بالقراءة إلى جانب علاجات أخرى ، كما أن في القراءة علاجاً جيداً لمرض التمركز الشديد حول الذات ، الذي يعاني منه بعض الناس . وهكذا فصحبة الكتاب خير على كل حال.
2- القراءة من اجل الاطلاع على معلومات ، أسلوب يمارسه كثير من الناس أيضاً ، والجهد الذي يتطلبه هذا النوع من القراءة محدود أيضاً ، إذ من السهل على من يعرف شيئاً من أحكام الصلاة أن يضيف معلومة إلى معلوماته حول خلاف فقهي ، في كون أحد أفعالها سنة أو واجباً . كما أن من السهل على من يعرف جغرافية بلد من البلدان أن يضيف إلى معلوماته شيئاً عن أزمته المائية، أو عن تطور عدد سكانه..
إن القراءة من اجل الحصول على معلومات شائعة جداً، لأن في عالمنا الإسلامي ( حمى ) تجتاح كثيراً من الناس، وهي حمى البحث عن الأسهل، والوصول إليه بأسرع وقت ممكن!
والدليل على شيوع هذا النوع من القراءة: الشكوى المستمرة من قبل كثير من الناس من صعوبة بعض الكتب، واستغلاقها على افهماهم، فهم لا يريدون أن يشاركوا المؤلف في عناء التجربة. ودليل آخر على ذلك ، هو أننا نشعر أن لدى الناس معلومات كثيرة حول قضايا وأحداث وأشياء كثيرة ،
لكن الملاحظ أيضاً أن فهم كثير منهم لا يتحسن ، كما أن قدرتهم على المحاكمة العقلية ما زالت ضعيفة ، وقدرتهم على غربلة المعلومات ودمجها في أطر ومحاور أكثر شمولية أشد ضعفاً وليس من الغريب أن نصف شخصاً ما بأنه كثير القراءة ، ثم نجد أن ( مركبه العقلي) لم يطرأ عليه أي تغير خلال عشرين سنة من القراءة والاطلاع!.
3- القراءة من اجل توسيع قاعدة الفهم، وهي أشق أنواع القراءة وأكثرها فائدة. والذين يقرؤون من أجل هذا الغرض قلة قليلة من الناس ، وذلك لأن أكثر الناس يعتقدون أن ما يملكون من مبادئ وقدرات ذهنية وإدراكية كاف وجيد ، فالناس لا يقبلون في العادة أي اتهام لهم بأن أذهانهم تعاني نوعاً من النقص ، كما أن القراءة من اجل تحسين نوعية الفهم شاقة جداً منذ بدايتها ،
فالكتاب الذي يرقى بفهم قارئه ليس ذلك الكتاب المفهوم لديه ، أو ذلك الذي يعرض معلومات وأفكاراً معروفة ، وإنما ذلك الكتاب الذي يشعر قارئه أنه أعلى من مستواه ، وأن فهمه يحتاج إلى نوع من العناء والجدية والتركيز . وحين ينجح القارئ في فهمه، فإنه يكون قد ارتفع إلى مستواه، وبذلك يكون قد تحسن تفكيره.
وقد يحدث أن يكون الكتاب مبتوت الصلة بثقافة القارئ، أو يحتوي على مصطلحات أو أفكار غريبة أو معقدة مما يجعل القارئ يشعر بالخذلان والانكسار، وهذا يعني أن القارئ قد لا يكون من الشريحة التي يستهدفها الكاتب. ولذا فإن الكتاب الذي يحسن الفهم، وهو كتاب يتحدى ولا يعجز ، فهو أعلى من مستوى القارئ لكن يمكن أن يرقى إليه إلى حد مقبول.
إن القراءة من اجل الفهم ، هي تلك القراءة التي تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة ، وتكسبنا عادات فكرية جديدة ، وتلك التي تزيد في مرونتنا الذهنية ، كما تنمي الخيال لدينا ، وتجعلنا نرسم صوراً للأحداث والأشياء ، وهي اقرب إلى التكامل ، على الرغم من وجود نقص فيالمعلومات والمعطيات المتاحة ..
إن مكاسبنا من وراء كتب تعطي معلومات كمكاسب شخص امتلك قطعة ذهبية، أما مكاسبنا من وراء كتب تحسن الوضع الفكري لدينا، فهي مثل مكاسب من أعطي مفتاح منجم من الذهب.إن هذا النوع من القراءة هو الذي يجعل معلوماتنا، تزهو وتثمر.
أ.د. عبدالكريم بكار