قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ ، قَالَ مَالِكٌ : وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ .وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ : أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ .
وسئل مالك عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف). وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا). وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر). راجع : آدَابُ الفَتـْوَى والمفتي والمستفتي ص 2-4.
عن ابن سيرين قال : قال حذيفة : إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : من يعلم ما نُسخ من القرآن ، أو أمير لا يجد بُدّا ، أو أحمق متكلف ، قال : فربما قال ابن سيرين : فلست بواحد من هذين ، ولا أحب أن أكون الثالث .
إعلام الموقعين ( 1 / 28 ، 29 ).
وعن ابن عيينة وسحنون بن سعيد قالا: « أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه » .
وعن الهيثم بن جميل: شَهِدْتُ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وفي : ( معيد النعم للسبكي- رحمه الله تعالى - : ( 63 و73 و82 ) : ولبعضهم :
إن الـذي يـروي ولــكـنـه * * * يـجــهـل ما يروي وما يـكتـب
كــصخــرةٍ تنبع أمــواهــها * * * تسـقي الأراضـي وهي لا تشرب
وقال بعض الظرفاء في الواحد من هذه الطائِفة : إنه قليل المعرفة والمخبرة يمشي ومعه أوراق ومِحبرة ؛ معه أجزاء يدورُ بها على شيخ وعجوز , لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز .
وما أجمل قول الخطيب البغدادي في كتابه [الفقيه والمتفقه] (2/350):
وقل من حرص على الفتوى, وسابق إليها, وثابر عليها إلا قل توفيقه, واضطرب في أمره, وإذا كان كارهاً لذلك غير مختار له, ما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب.
قال ابن جماعة الكناني في ( تذكرة السامع والمتكلم 23 ) : واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك.
وهذا إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قيل له: \"يا أبا عبد الله: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟، قال: لا، قيل: مائتا ألف؟ قال: لا، قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قيل: أربعمائة ألف؟ قال: لا، قيل: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو . الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه (2/349).
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
يقولون هذا عندنا غير جائز* * * ومن أنتمو حتى يكون لكم عندُ
وقال الأمير شكيب أرسلان : ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين : العلم الناقص ، والذي هو أشد جهلًا من الخطر البسيط ، لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ، ولم يتفلسف عليه ، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ، ولا يقتنع بأنه لا يدري ، و كما قيل \" ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون \" ، وأقول : ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم . لماذا تأخر المسلمون ؟ \" ص 75.
قال أحدهم :
تصدر للتدريس كل مـهـوس *** جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثـلـوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس
ولقد عرَّف أهل العلم الإفتاء بأنه: \"الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي\". ولما كان الإفتاء بهذه المنزلة من الأهمية اشترط له العلماء شروطاً عديدة، لا بد من توفرها فيمن أراد التصدي لهذا المنصب الخطير. والشروط باختصار- هي:الإسلام , والبلوغ , والعقل, والعدالة , والاجتهاد.
وقد ذكر العلماء للمجتهد عدة شروطٍ، منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف، وأهم هذه الشروط إجمالاً:العلم بآيات الأحكام من القرآن الكريم, والعلم بأحاديث الأحكام من السنة الشريفة, والعلم باللغة العربية, والعلم بأصول الفقه, والعلم بمسائل الإجماع حتى لا يخالفها.
قال الشّافعيّ فيما رواه عنه الخطيب: لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللّه، إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب اللّه: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكّيّه ومدنيّه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللّغة، بصيراً بالشّعر، وما يحتاج إليه للسّنّة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي . إعلام الموقعين ( 1 / 46 ) .
ويذكر أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - مثالين لهذ التخبط من عصره ؛ فيقول عن أحدهم :جاءته امرأة فقالت: أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر قالت: لم تكن البئر مغطاة فقال يحيى: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر . تلبيس إبليس 138.
__________________
|