حق الفرد وحق الجماعة
ومن ناحية أخرى، فإن الحرية في التعبير هي أمر مكفول للشخص أو للفرد، ونحن نلحظ أن هذين اللفظين هما ما استخدمه كلٌّ من إعلان حقوق الإنسان والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، ومن الطبيعي أن الجماعات يتكون كل منها من أفراد، ومن ثم فإن الحقوق والحريات المكفولة للفرد تصدق أيضا على الجمع من الأفراد، هذا من نوافل الأقوال، إنما ما أقصد الإشارة إليه أن حق الفرد إن تعارض مع حق الجماعة، وجب بذل الجهد للتوفيق بينهما، فإن لم يمكن التوفيق، أو فيما لم يمكن فيه التوفيق، وجب تقديم حق الجماعة، وكان حق الجماعة أولى بالمراعاة من حق الفرد.
لا أجد في نفسي حاجة لأن أثبت هذه المسألة، فهي في ظني ثابتة، سواء من وجهة نظر الفقه الإسلامي، أو من وجهة نظر الفكر الوضعي، والفقه الإسلامي يجعل حق الجماعة في مجال حقوق الله سبحانه؛ لأن ما يتعلق بالنفع العام للناس ويعود على مجموع الأفراد والجماعات إنما يُنسب إلى الله تعالى، من قبيل التعظيم لهذا الحق (لأن الله سبحانه مُستغن عن الناس وجماعاتهم)، ومن قبيل ألا يختص بهذا الحق واحد من الطغاة والجبابرة، فيدعي لنفسه القوامة عليه بسبب شيوعه.
كما أننا نعرف أن ما يُهم الجماعة مما يُعتبر في مرتبة الحاجات إنما ينزل بوصفه الجماعي منزلة الضرورات.. وهكذا. ومن حيث الفكر الوضعي، فإنه يكفي في هذا المجال ما أوردته الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الدينية والسياسية؛ إذ قررت في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 18 حرية الفكر والضمير والديانة للفرد، وعدم جواز الإخضاع للإكراه في هذا الشأن، ثم نصت الفقرة 3 من المادة ذاتها "تخضع حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو مُعتقداته فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية"، فإن لفظ "العامة" أو "العام" الموصوف به أي من النظام أو السلامة أو الصحة، صريح الدلالة في تعلقه بالجماعة، وهو يُفيد خضوع حرية الفرد في أي من ذلك لما تستوجبه مصلحة الجماعة.
وكذلك فإن المادة 19 من الاتفاقية ذاتها بعد أن أقرت حق الفرد في اتخاذ الرأي وحريته في التعبير، وما يشمله ذلك بالصيغة السابق إيرادها في بيان حقوق الإنسان، بعد ذلك نصت الفقرة 3 على أن مُمارسة هذه الحرية ترتبط "بواجبات ومسئوليات خاصة"، ومن ثم "فإنها قد تخضع لقيود معينة، ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون، والتي تكون ضرورية:
أ- من أجل احترام حقوق وسمعة الآخرين.
ب- من أجل حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.
وبذلك يظهر أن الحقوق والحريات المذكورة ترتبط بواجبات ومسئوليات، فهي من بدئها ليست حقوقا طليقة من كل قيد، وإنها تخضع للقيود الضرورية، وإن هذه الضرورات لا يكفي بشأنها عدم المساس بحقوق الغير وسمعتهم، إنما يتعين أن تكون من أجل "احترام" هؤلاء الآخرين واحترام سمعتهم، وإنها مُقيدة بحقوق الجماعة، أمنًا ونظامًا وصحة وأخلاقًا. ومن هذا يبدو أن حق الفرد وحريته في التعبير إنما يتغير ويخضع لحقوق الجماعة ولما لها من حرم وعصم.
منقول
|