رفع بن العاص الاضطهاد عن النصارى وأمر بعدم تحميلهم ما لا يطيقون، والأهم من ذلك تلك السياسة الحكيمة التي اعتمدها عندما آثر إطلاق الحرية الدينية للأقباط، فبعد استيلائه على حصن نابليون، كتب بيده عهداً للأقباط بحماية كنيستهم، الأمر الذي أعطاه شهادة حية على سلوكه الحضاري الذي أكدته قراراته الحكيمة تجاه كل المستجدات التي واكبت أحداث الفتوح، والتي كثيراً ما كانت تحدث بين أبناء الدين الواحد الذي كان سائداً في البلاد التي فتحوها.
وجاءت أحداث فتوحات المسلمين لتعطي الدليل على السلوك الحضاري الذي التزم به فاتح مصر عمرو بن العاص عندما وجد نفسه عشية دخوله مدينة الإسكندرية أمام مشكلة تهدد أبناء الدين المسيحي في مصر، ففي فتح مصر برز مشهد تاريخي، فعندما دخل سيدنا عمرو بن العاص الإسكندرية ووجد فيها الأقباط والروم على خلاف بعد اضطهاد الروم الأقباط ونفي بطريقهم بنيامين وأُبعد من كرسيه مدة تزيد على عشر سنوات، لم يحاول الفاتح الإسلامي الإفادة من هذا الخلاف لتعميق الشرخ بين الكنيسة القبطية والكنيسة الأرثوذكسية، ولم يعمل على تطبيق المثل القائل «فرّق تسد»، بل حاول الوقوف على أسباب النزاع والعمل على حله وإعطاء المظلوم حقه ودفع الظالم للكف عن التمادي في ظلمه.
كان في إمكان القائد المسلم أن يستفيد من هذا الخلاف ويزيد من حدة الانقسام بين الروم والأقباط، لكنه أبى ذلك وأطلق الحرية الدينية للأقباط وكتب بخط يده عهداً لهم بحماية كنيستهم، ولعْن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها، كما كتب أماناً للبطريق بنيامين، ورده إلى كرسيه بعدما تغيب عنه أكثر من عشر سنوات، كما أمر باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال، وألقى بنيامين على مسامعه خطاباً ضمّنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة، فتقبلها القائد الإسلامي ومنحه السلطة التامة على الأقباط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة.