الموضوع: قرأت لكم
عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 11-06-2012, 01:58 AM
الصورة الرمزية الأستاذة ام فيصل
الأستاذة ام فيصل الأستاذة ام فيصل غير متواجد حالياً
مدير الأقسام العامة
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 16,531
معدل تقييم المستوى: 10
الأستاذة ام فيصل is just really nice
افتراضي وجه السيدة العجوز‏

وجه السيدة العجوز‏!‏ بقلم‏:‏ أسامة أنور عكاشة
بالرغم من عمرها الطويل الذي تعدي الألف عام بتسع وثلاثين بعدها‏,‏ فمازالت صامدة في وجه الزمن وعواديه‏,‏ ومازالت تناضل من أجل البقاء والحفاظ علي كبريائها وعلي المعني الذي يحتويه اسمها لتبقي القاهرة غير مقهورة أو مهزومة‏..‏

ولقد تلقت خلال هذا العمر المديد صنوفا شتي من الضربات والصدمات لو تعرضت لها مدينة أخري لركعت واستسلمت لخراب يتركها أطلالا‏..‏ لكنها ـ لسر ما في تكوينها أو في الخامة الإنسانية لأهلها ـ امتصت كل الضربات واستوعبت كل الصدمات بل وحولتها بعبقرية نادرة الي محفزات لعوامل القوة والانتصار‏..‏ وكانت قمينة بأن تظل واحدة من سيدات العواصم وحاضرة من أهم الحواضر‏..‏ لولا أن الكثرة تغلب الشجاعة
كما يقال‏..‏ ولقد تكاثرت عليها غوائل الدهر من إهمال وتشويه ومسخ للطابع والهوية ولقيت من ذوي الجهل وأصحاب الأدمغة الفارغة الذين تعاقبوا علي إدارة شئونها خلال الستة عقود الماضية ـ أولئك الذين ارتكبوا في حقها ـ جرائم حقيقية تدخل تحت بند القتل العمد للمدينة‏..‏ وتحفل عريضة الاتهام بشتي ألوان وأنواع جريمة القتل‏..‏ فهناك قتل الروح بسلب الهوية وتمييع الطابع وتشويه الجمال والعبث بثروة التراث التاريخي المتبقي لديها من تركة القرون‏,‏
وهناك القتل المادي بمعناه القانوني ماثلا في تعريضها للاختناق بالتلوث الشامل الذي تجاوز كل معدلات الأمان‏..‏ واهمال التصدي لمشكلاتها أولا بأول حتي تراكمت وأصبحت جبلا يصعب تسلقه أو اختراقه‏..‏ ثم تحولت هذه المشكلات الي أزمات قابلة للانفجار في أي لحظة‏..‏ وأقرب مثال نستطيع أن نذكره هو أزمة المرور والانفجار السكاني الرهيب ونمو العشوائيات وتكاثرها وإحاطتها بعنق المدينة وزحفها الدائب المستمر علي قلبها‏……‏ نعم‏…‏ هرمت القاهرة‏…‏ وتحولت الغادة الحسناء باهرة الجمال الي سيدة عجوز‏..‏ محنية الظهر‏..‏ راعشة الخطي‏..‏ تغزو وجهها التجاعيد‏…‏
…‏ عاصمة إفريقيا‏…‏ وعاصمة العرب‏…‏ قاهرة المعز تتحول الآن سنة بعد سنة‏..‏ بل ربما يوما بعد يوم الي كيان مهوش مبعثر تترامي أطرافه في كل اتجاه دونما لمسة جمال أو دلالة لرقي الذوق‏…‏ فمن عشش الصفيح واكواخ الخيش والخشب الي ضواحي مستحدثة ومتجردة من أي طابع معماري ولا تزيد عن كونها بنايات من الخرسانة ملطخة بالألوان المتنافرة‏,..‏ وداخل الدائرة أحزمة متداخلة لمبان سكنية وتجارية علي كل لون‏,‏ ولا طراز ـ إلا طراز العلب والصناديق ـ سواء كانت تلك المباني في الأحياء الأرستقراطية والراقية أو في الأحياء الشعبية التي لم تترك محتفظة بطابعها الشعبي المميز وانما غزتها نفس الأذواق الفاسدة لمقاولي وتجار الهوامش وزبائنهم من طبقة محدثي النعمة أو النوفو ـ ريش ـ وفي عمق الأحياء المصرية العريقة كالجمالية والأزهر والحسين والسيدة زينب والقلعة‏…‏ ومصر القديمة‏..‏ انتصبت تتحدي المآذن والقباب الفاطمية والمملوكية‏..‏ ناطحات الغبار‏..‏ وأبراج الأسمنت الملون‏!!‏
أما قلب المدينة حيث انتظم عقد المعمار الإيطالي فقد اعتدت حركة التشويه بفظاظة الجهل والتخلف علي منطقة متحفية تحتوي علي عقد لؤلؤي أهداه الخديو المستنير الطموح إسماعيل باشا لعاصمة حكمه يوم كان يعدها لتكون درة الشرق‏…‏ وعاصمة المتوسط‏…‏ ولم يدر بخياله للحظة واحدة أن القلب الأوروبي المعماري للقاهرة سيصبح يوما مجمعا لدكاكين الأحذية تتخلله شوارع بلا أرصفة‏..‏ ترتفع لافتات النيون علي هاماتها بألوان كهربائية تضيء وتنطفئ في تتابع ساذج كحبال المصابيح الملونة في فرح العمدة‏…‏
تحولت القاهرة‏..‏ جميلة مدن الشرق حتي خمسينيات القرن العشرين‏…‏ الي العجوز المتهالكة التي نراها اليوم فنجزع ونهرب منها ونتحسر علي ماضيها الشهيد‏…‏ ولم يبق فيها من يستطيع تحمل سكناها من أهلها وأصبحت زيارة الخواجات من السياح لها‏..‏ مجرد توقفات خاطفة‏..‏ يادوب علي قد نظرة تلقي علي الاهرامات وأبوالهول‏..‏ وأخري علي معابد الأقصر‏..‏ وبعدها يافكيك‏..‏ وصارت شركات السياحة في أوروبا وأمريكا واليابان‏..‏ تصدر في نشراتها الدورية تحذيرات مشددة لكل الراغبين في زيارة مصر بأن يتخذوا كل الاحتياطات‏

لتلافي مخاطر السياحة علي ضفاف النيل‏,‏ ذلك النهر الخالد صاحب الكاريزما التاريخية‏,‏ الذي تحول في هذه الفترة القميئة الشوهاء الي مقلب للقمامة وجثث الحيوانات النافقة ومصرف لمخلفات المصانع والمجاري وكل أنواع النفايات‏,‏ حيث تربض علي ضفافه كل أخطار التلوث البصري والسمعي والحيوي‏…‏ وبلغ الأمر غاية مسببات الرعب وبدا أن الأمل الوحيد في انقاذ المدينة التي عشقناها يوم كانت لاتزال مدينة تزهو بجمالها وكبريائها‏..‏ بدا لكثير منا أن الأمل الوحيد هو الدعوة لإنشاء حملة دولية ترفع شعار انقذوا القاهرة‏SaveCairo‏ علي غرار حملة اليونسكو لانقاذ أبوسمبل‏..‏
ولكن أملا قد بزغ وشق ستر الظلمة حين أطلق السيد عبدالعظيم وزير محافظ القاهرة حملة محلية لتجميل القاهرة واستعادة مجدها القديم‏..‏ وقد تفاءلنا خيرا‏..‏ ومازلنا حريصين علي تفاؤلنا‏…‏ لكن التفاؤل لا يمنعنا من إبداء مخاوفنا للسيد المحافظ الذي نحمل له في الواقع تقديرا يستحقه‏..‏ وأهم هذه المخاوف أن يقتصر مشروعه علي مجرد إعادة طلاء واجهات العمارات فهذا وحده لن يزيل التجاعيد ولكن تكفي عملية شد الوجه لتحقيق المراد‏..‏ فالقاهرة يلزمها إعادة تخطيط لا إعادة طلاء‏..‏ ولي في هذا الصدد اقتراح محدد بما أن آفة الآفات في عرقلة أي عملية للاصلاح أو التجديد هي الانفصال الشبكي الذي ينتج عن تعدد جهات العمل التي تدخل عملية الاصلاح في دائرة اختصاصها‏,‏
ويسبب التناقض والتضارب بينها مما يهدد بإفشال أي مشروع في أي مجال‏..‏ والاقتراح هو التنسيق بين مشروع المحافظة مشروع وزارة الثقافة للتنسيق الحضاري والذي أري أنه يجب ألا يقتصر علي التخطيط للأماكن الأثرية والتاريخية بل يجب أن تتضافر جهود المحافظة مع جهود جهاز التنسيق الحضاري بوزارة الثقافة لإعادة الوجه المضيء والمشرف الذي يليق بعاصمة المعز‏…‏ وأكبر مدن إفريقيا‏..‏ وأملي أن يتجاوز السادة المسئولون في الجهتين الخلافات الإدارية التي تحدث غالبا في مثل هذه الأحوال‏…‏ وإن كنت أشفق عليهم جميعا من الثقب الذي قد تتسرب منه كل الانجازات المأمولة‏..‏ فمشكلة السيدة العجوز ليست في الندوب والتجاعيد علي الوجه‏..‏ ولا في الثياب التي رثت وتمزقت‏!‏ فربما كانت هذه أسهل المشكلات‏..‏ لكن السيدة ينوء كاهلها بملايين البشر‏..‏ وملايين السيارات‏…‏ ومئات المصانع والمصالح الحكومية‏..‏ وعشرات المرافق العامة وأساسات البنية‏…
رد مع اقتباس