لا هَامَةَ
الشرح:
قوله: ( لا هامة) قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الارض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح فيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته.
وقد ذكر الزبير بن بكار في " الموفقيات " أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة - وهي دودة - فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب.
وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الاول، إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة.
وقال ابن الاعرابي: كانوا يتشاءمون بها، إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري.
وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى.
فعلى هذا فالمعني في الحديث لا حياة لهامة الميت، وعلى الاول لا شؤم بالبومة ونحوها، ولعل المؤلف ترجم " لا هامة " مرتين بالنظر لهذين التفسيرين والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا عَدْوَى وَلا صَفَرَ وَلا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الابِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الاجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَعْدَى الاوَّلَ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الاوَّلِ قُلْنَا أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لا عَدْوَى فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثاً غَيْرَهُ
الشرح:
قوله: (عن أبي سلمة) في رواية شعيب عن الزهري " حدثني أبو سلمة " وهي في الباب الذي بعده.
قوله: (لا عدوى) تقدم شرحه مستوفى في " باب الجذام " وكيفية الجمع بين قوله: " لا عدوى " وبين قوله " لا يورد ممرض على مصح " وكذا تقدم شرح قوله: " ولا صفر ولا هامة".
قوله: (فقال أعرابي) لم أقف على اسمه.
قوله (تكون في الرمل كأنها الظباء) في رواية شعيب عن الزهري في الباب الذي يليه " أمثال الظباء " بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد جمع ظبي، شبهها بها في النشاط والقوة والسلامة من الداء.
قوله: (فيجربها) في رواية مسلم " فيدخل فيها ويجربها " بضم أوله، وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى، أي يكون سببا لوقوع الحرب بها، وهذا من أوهام الجهال، كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الاصحاء أمرضهم فنفى الشارع ذلك وأبطله، فلما أورد الاعرابي الشبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " فمن أعدى الاول "؟ وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة.
وحاصله من أين الجرب للذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الاول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعي، وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مصح) كذا فيه بتأكيد النهي عن الايراد.
ولمسلم من رواية يونس عن الزهري " لا يورد " بلفظ النفي، وكذا تقدم من رواية صالح وغيره، وهو خبر بمعنى النهي بدليل رواية الباب.
والممرض بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى، والمصح بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها مهملة من له إبل صحاح، نهى صاحب الابل المريضة أن يوردها على الابل الصحيحة.
قال أهل اللغة: الممرض اسم فاعل من أمرض الرجل إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت.
قوله: (وأنكر أبو هريرة الحديث الاول) وقع في رواية المستملي والسرخسي " حديث الاول " وهو كقولهم مسجد الجامع.
وفي رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة " كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى".
قوله: (وقلنا ألم تحدث أنه لا عدوى) في رواية يونس " فقال الحارث بن أبي ذئاب " بضم المعجمة وموحدتين وهو ابن عم أبي هريرة " قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديث لا عدوى، فأبى أن يعرف ذلك " ووقع عند الاسماعيلي من رواية شعيب " فقال الحارث: إنك حدثتنا " فذكره " قال فأنكر أبو هريرة وغضب وقال: لم أحدثك ما تقول".
قوله: (فرطن بالحبشية) في رواية يونس " فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة حتى رطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا.
قال: إني قلت أبيت".
قوله: (فما رأيته) في رواية الكشميهني " فما رأيناه " (نسي حديثا غيره) في رواية يونس " قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان يحدثنا به فما أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين للاخر"، وهذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض، وقد تقدم وجه الجمع بينهما في " باب الجذام " وحاصله أن قوله: " لا عدوى " نهي عن اعتقادها وقوله: " لا يورد " سبب النهي عن الايراد خشية الوقوع في اعتقاد العدوى، أو خشية تأثير الاوهام، كما تقدم نظيره في حديث " فر من المجذوم " لان الذي لا يعتقد أن الجذام يعدي يجد في نفسه نفرة، حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك، فالاولى بالعاقل أن لا يتعرض لمثل ذلك بل يباعد أسباب الالام ويجانب طرق الاوهام والله أعلم.
قال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديث " من بسط رداءه ثم ضمه إليه لم ينس شيئا سمعه من مقالتي " وقد قيل في الحديث المذكور إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلا.
وقيل: كان الحديث الثاني ناسخا للاول فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: " لا عدوى " النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلا جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر عليها وما لم تكن تنجو منه، لان العجماء جبار، ويحتمل أن يكون قال هذا على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك انتهى.
فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بينت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة لان النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع، وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه، ويحتمل.
أيضا أنهما لما كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يحدث بأحدهما ويسكت عن الاخر حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبي في " المفهم".
قال: ويحتمل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا.
قال القرطبي: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلا لفهمه، وأما من كان قاصرا فيخاطب بما يحتمله عقله من الاقناعيات.
قال: وهذه الشبهة التي وقعت للاعرابي هي التي وقعت للطبائعيين أولا وللمعتزلة ثانيا، فقال الطبائعيون بتأثير الاشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها، وسموا المؤثر طبيعة.
وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالايجاد، وأنهم خالقون لافعالهم مستقلون باختراعها، واستند الطائفتان إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة، وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا لالتباس إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثير شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فهو فيه حظ العقل، فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا والله أعلم.
وفيه وقوع تشبيه الشيء بالشيء إذا جمعهما وصف خاص ولو تباينا في الصورة.
وفيه شدة ورع أبي هريرة لانه مع كون الحارث أغضبه حتى تكلم بغير العربية خشي أن يظن الحارث أنه قال فيه شيئا يكرهه ففسر له في الحال ما قال، والله أعلم.