إن حُسن فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم النعم التي يَمُنُّ اللهُ تعالى بها على مَنْ يشاءُ من عباده؛ فما أوتي أحد بعد الإيمان أفضلَ من الفهم عن الله وعن رسوله، كما أن العلم بتخريج الأحاديث من أعظم النعم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح):
"سوء الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِ بدعةٍ وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كلِ خطأ في الأصول والفروع، ولاسيما إن أُضيف إليه سوءُ القصد! ".
وقد اكتملت شريعة الله سبحانه تعالى ببيان أصول الحلال والحرام وما يقيم دنيانا وتفلح به أخرتنا بما جاء في نصوص القرآن والسنة كما قال تعالى:
{اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي} [المائدة: 3]،
فبعض الناس اتخذ من قوله:
"أنتم أعلم بأمور دنياكم"
ذريعة للتنصل من أحكام الإسلام المتعلقة بالدنيا مثل المعاملات ونحوها، ومن المعلوم أن تشريعات الإسلام وأحكامه جاءت لتحكم حياة الناس في جميع شؤونهم من عبادات ومعاملات
وأحكام أسرية، وغير ذلك ، قال الله –تعالى-:
"فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"،
وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً"،
وقال عز وجل:
"قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
نبدأ بالتحليل العقلى
إن فكرة استخدام نص ديني من أجل التأصيل للعلمانية ، كما هو الحال مع هذا الحديث..
فهذه الآلية تحتوي في نظري على ثلاث ثغرات كافية لقتل الفكرة المروج لها برمتها..
الاولى : إن استخدام النص النبوي و لو من أجل تأصيل المشروع العلماني يحتوي ضمنا على الاقرار بسلطة هذا النص و قدرته على تحديد الاتجاه الدنيوي و لو بعد الف و اربعمائة سنة من صدوره و هذا يضرب الفكرة العلمانية في عمقها
الاهم : الفصل بين ما هو ديني و ما هو دنيوي..
الثانية : و هي ناتجة بطريقة ما عن الثغرة الاولى ، إن هذا الاقرار الضمني بسلطة النص الديني ( و للنتنبه هنا أنه حديث نبوي و يندرج ضمن احاديث الآحاد و ليس نصا قرآنيا مثلا) يمنح هذه السلطة لأي نص ديني من مستواه و من مستوى اعلى ، لا يمكن حقا “حجر” هذه السلطة لنص ديني ننتقيه على هوانا ومن ثم نمنعها عن نصوص دينية أخرى .. بعبارة اخرى ، عندما يستخدم المفكر العلماني نصا دينيا ليروج للعلمانية او ليؤصل لها فأنه في الوقت نفسه و دون ان يشعر يروج ل”حُجيّة السنة” أي أن تكون السنة النبوية حجة بحد ذاتها ، و هذا يضعه و مشروعه في خانة ضيقة جدا ، ذلك ان حُجيّة السنة نفسها ستفرز احكاما اخرى بالاستناد على نصوص نبوية أخرى و لا يمكن هنا للمفكر العلماني الاعتراض على استخدام هذه الالية “هنا” لانه استخدمها شخصيا “هناك” ، عند نص آخر.. ،كل ما في الامر أنه انتقى نصاً معينا و من الواضح انه انتقاه لأنه وجد فيه معنى يمكن أن ينسجم مع فكره المسبق..
الثالثة : ان مقارنة هذا الحديث بالجملة الانجيلية “أعط ما لقيصر لقيصر و اعط ما لله لله” و اعتبارها سببا لنشوء العلمانية في الغرب –كما أصر الاستاذ طرابيشي- امر سيحتوي على قدر كبير من الاختزال و التبسيط ان لم يكن التسطيح..فالعلمانية كتجربة تاريخية بكل ما لها و ما عليها لا يمكن أن تعود لعامل واحد منفرد ، و لن يكون هذا العامل نصا دينيا بكل الاحوال..فالعلمانية أعقد بكثير من ذلك و قد ولدت نتيجة لصراعات اجتماعية امتلكت محدداتها و منطلقاتها داخل رحم التجربة الغربية …و تبسيط الامر بعزوه الى جملة في الانجيل أمر يجب ان لا ننزلق الى مستواه..
والأن مع حقيقة الأمر من الباب الشرعى
والان سوف نستعرض عدم صحة هذه العبارة الزائدة في الحديث فضلا عن ان الاستدلال غير صحيح فيما ذهبوا اليه لان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد صرح في بداية قوله ونهايته أنه يتحدث عن ظن وليس خبر .
يورد مسلم في صحيحه عدة روايات في الموضوع أو الباب الواحد تكون الرواية الأولى في الباب هي التي على شرط الصحة ، أي هي التي صح إسنادها عنده أما ما يأتي به بعدها في نفس الباب فلمجرد الزيادة والاستشهاد مع أنها بأسانيد ضعيفة أحياناً .
كما أنه كان يرتب روايات الاستشهاد ترتيبا نازلاً فيجعل أضعفها في آخر الباب . فإذا كانت الروايات الآتية بعد الرواية الأولى موافقة للرواية الأولى في بعض الجمل أو العبارات كانت هذه العبارات هي محل الاستشهاد وأما ما كان فيها من عبارات ليست في الرواية الأولى فليست محلا للاستشهاد ولا يحتج بها لأنها ضعيفة أحياناً .
فعند الرجوع إلى هذا الموضع في صحيح مسلم ، نجده يروي بسنده حديث النبي في الرواية الأولى الصحيحة ، وليست فيها هذه العبارة ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) ولا حتى في الرواية التي بعدها ولم ترد هذه العبارة إلا في آخر وأضعف رواية في الباب وهي رواية ضعيفة الإسناد لا يحتج بما جاء فيها من عبارات زائدة . وحتى إذا افترضنا أن إسنادها يظهر عليه الصحة فإنها تكون حين إذ رواية شاذة والرواية الشاذة مردودة عند علماء السنة. ولمعرفة المزيد عن معنى ( الرواية الشاذة )
فهيا بنا نتأمل الرواية الأولى صحيحة الإسناد في بابنا هذا ، فهي بعد ذكر مسلم لإسناده كالتالي : " عن موسى بن طلحة عن أبيه قال مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال " ما يصنع هؤلاء " فقالوا يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " [ ما أظن ] يغني ذلك شيئا " . قال فأُخبروا بذلك فتركوه فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني [ إنما ظننت ظنا ] فلا تؤاخذوني [ بالظن ] ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل " )
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ج: 15 ص: 116
قال العلماء ولم يكن هذا القول خبرا وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات . انتهى . إذاً ، يتبين من الرواية الصحيحة أن النبي لم يقل ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) وحاشاه أن يقول ذلك . كما بين النبي أن ذلك مجرد ظن منه وبهذا يُعلم أن ذلك ليس نهياً أو أمراً أو سنة أو ندباً ( وهذا ضابط مهم ) فقال منذ البداية " ما أظن " ولم ينههم ثم أكد على هذا البيان مرة أخرى حين بلغه ما بلغه فقال " فإني إنما [ ظننت ظنا ] فلا تؤاخذوني بالظن ". فالله الذي رضي لنا الإسلام دينا إلى يوم القيامة أعلم بأمور دنيانا منا .
--------------------------
إسناد تلك الرواية الموضوعة فيها هشام بن عروة عن أبيه وقد حدث بها في العراق فالراوي الذي رواها عنه عراقي [ وقد أُنكر على هشام بعدما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية فأنكر عليه ذلك أهل بلده فإنه كان لا يحدث عن أبيه إلا ما سمعه منه ثم تسهل فكان يرسل عن أبيه ] . ( المرجع : تذكرة الحفاظ للقيسراني المتوفى سنة 507 هـ . ج 1 . ص 145 . ) .
كما أن في إسناد تلك الرواية الموضوعة حماد بن سلمة : نقل الذهبي في السير 7-446 و 452 والزيلعي في نصب الراية 1-285 عن البيهقي في الخلافيات أنه قال في حماد بن سلمة ( .. لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك لم يحتج به البخاري وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سمع منه قبل تغيره وأما سوى حديثه عن ثابت فأخرج نحو اثني عشر حديثا في الشواهد دون الاحتجاج فالاحتياط ان لا يحتج به فيما يخالف الثقات 000 ] وهو هنا قد أخطأ وخالف بروايته رواية الثقات والكتاب والسنة وأمراً معلوما من الدين بالضرورة وهو أن الله أعلم من جميع خلقه بكل شيء بما في ذلك أمور دنياهم . الله أعلم بأمور دنيانا منّا .
من أمثلة كلام علماء السنة عن الاحتجاج بالأصل وأنه غير الاستشهاد عند مسلم ما يلي
( قال النووي في شرحه لصحيح مسلم ج 1 ص 91 في سياق حديثه عن أحد الرواة الضعفاء : فإن قيل : فإذا كان هذا حاله فكيف روى له مسلم فجوابه من وجهين أحدهما .. والثانى [ أنه لم يذكره أصلا ومقصودا بل ذكره استشهادا ] ) إنتهى.
وقال أبو الوفا الحلبي الطرابلسي المتوفى في القرن التاسع الهجري في كتابه المسمى التبيين لأسماء المدلسين ج: 1 ص: 222 ما يلي : ميمون بن أبي شبيب متكلم فيه ولم أر أحدا من الحفاظ وصفه اني رأيت بخط بعض فضلاء الحنفية الفقهاء حاشية في أوائل صحيح مسلم في المقدمة فإن قيل ميمون بن أبي شبيب مدلس وقد روى عن المغيرة بالعنعنة فلا تقبل روايته [ قلنا مسلم إنما رواه عنه استشهادا ] بعد ان رواه من حديث بن أبي ليلى عن سمرة. إنتهى.
وقال ابن حجر في كلامه عن أحد الرواة في تهذيب التهذيب ج: 1 ص: 183 : وقال بن القطان الفاسي لم يحتج به مسلم إنما أخرج له استشهادا. إهـ
من أمثلة ذلك التفريق بين الإحتجاج والمتابعة أيضاً : ما قاله ابن القيم في المنار المنيف 1/149 حيث قال ( وعلى ابن زيد قد روى له مسلم [ متابعة ] ولكن هو ضعيف وله مناكير تفرد بها فلا يحتج بما ينفرد به ) إهـ
لذا لا يحتاج المسلم المتدبر لكتاب الله وسنة رسوله أن يذكره أحد بأن الله هو علام الغيوب وأنه هو العليم الحكيم وأن الله الذي رضي لنا الإسلام دينا وشرعه لنا إلى يوم القيامة أعلم بأمور دنيانا منا. أيشك أحد من المسلمين في أن الله أعلم منه بأمر دنياه وجميع أموره . قال الله " قل أأنتم أعلم أم الله "
لم يقل «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وحاشاه أن يتبين من الرواية الصحيحة أن النبي أن ذلك مجرد ظنٌّ منه. وبهذا يُعلم أن ذلك ليس يقول ذلك. كما بيّن النبي نهياً أو أمراً أو سنة أو ندباً، وهذا ضابط مهم في الفقه. فقال منذ البداية «ما أظن»، ولم ينههم. ثم أكد على هذا البيان مرة أخرى حين بلغه ما بلغه، فقال: «فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن». فالله الذي رضي لنا الإسلام دينا إلى يوم القيامة، أعلم بأمور دنيانا منا.
ونلاحظ كذلك أنه لم يكن يخاطبهم أصلاً، ولم يسمعوه هم يتكلم بل نقل هذا الكلام عنه أحد أصحابه. فلم علم بذلك أخبرهم أن ذلك كان من الظن (كما صرح أول مرة) ولم يكن خبراً من الله. فلم يتركوا تلقيح النخل كما في الروايتين الضعيفتين اللتين في الشواهد. ففي إسناد الشاهد الأول عكرمة بن عمار، وفيه كلام. وبالغ ابن حزم فاتهمه بالكذب ووضع الحديث كما في كتابه الإحكام (6\199). وهو غير عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس، فلا تخلط بينهما. والراوي عنه هو النضر بن محمد، فيه جهالة لم يوثقه إلا العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وتوثيقهما أضعف أنواع التوثيق. وإخراج مسلم له ليس بتوثيق، لأنه في الشواهد لا في الأصول.
كما أن في إسناد تلك الرواية الموضوعة حماد بن سلمة. وهو وإن كان من أئمة أهل السنة فهو كثير الأوهام خاصة لما كبر. نقل الذهبي في السير (7\446 و 452) والزيلعي في نصب الراية (1\285)، عن البيهقي في الخلافيات أنه قال في حماد بن سلمة: «.. لما طعن في السن ساء حفظه. فلذلك لم يحتج به البخاري. وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سُمِعَ منه قبل تغيّره. وأما سوى حديثه عن ثابت فأخرج نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات». قلت وهو هنا قد أخطأ وخالف بروايته رواية الثقات، والكتاب والسنة وأمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، وهو أن الله أعلم من جميع خلقه بكل شيء، بما في ذلك أمور دنياهم.
وهذه الزيادة صارت مفتاحاً لبني علمان ضدنا. وكأنها جملت دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله
وشكراً لكم على ردكم وأرجوا مواصلة العطاء والنقاش حتى نستفيد جميعاً