فقلت: ما بكاؤك يا سيدي؟
قال: أتعلم أين زوجتي الآن؟
قلت: وماذا تريد منها؟
قال: لا شيء ، سوى أن أقول لها إني قد عفوت عنها.
قلت: إنها في بيت أبيها.
قال: وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها! فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاداً فألبستُهم مذ عرفوني ثوبا من العار لا تبلوه الأيام. مَن لي بمن يبلغهم عني جميعاً أنني مريض مشرف ، وأنني أخشى لقاء الله إن لقيتُه بدمائهم ، وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا زلتي ، قبل أن يسبق إليّ الأجل؟!.. لقد كنتُ أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عِرضها صيانتي لحياتي ، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي ، فحنثت في يميني ، فهل يغفر لي ذنبي ، فيغفر لي الله بغفرانه؟ نعم إنها قتلتني!.. ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدَته في صدري ، فلا يسألها أحد عن ذنبي. البيت بيتي ، والزوجة زوجتي ، والصديق صديقي ، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي ، فلم يذنب إلي أحد سواي.
ثم أمسك عن الكلام هنيهة ، فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً ، حتى لبست وجهه ، فزفر زفرة خِلتُ أنها خرقت حجاب قلبه ، ثم أنشأ يقول:
- آه ما أشد الظلام أمام عيني!.. وما أضيق الدنيا في وجهي!.. في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف كنت أراهما جالسين يتحدثان فتملأ نفسي غبطة وسروراً ، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفيّ يؤنس زوجتي في وحدتها ، وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقي في غيبتي ، فقولوا للناس جميعاً: إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ، ويزعم أنه أكْيَسُ الناس وأحزمهم ، قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله إلى الغاية من البلاهة ، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها.
- وَالهفا على أم لم تلدني وأب عاقر لا نصيب له في البنين . لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل ، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض ، أو يحدقون إليّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجوه البُله.. والغباوة في وجوه الأغبياء!..
ولعل الذين كانوا يتوددون إليّ ويتمسحون بي من أصدقائي ، إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي!.. ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم قواداً ويسمون زوجتي مومساً!.. وبيتي ماخوراً .. وأنا عند نفسي أشرف الناس وأنبلهم.
فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ساعة واحدة ، ووالهفا على زاوية منفردة في قبر موحش يطويني ويطوي عاري معي. ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه.
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى وضعته بجانب فراشه ، ثم تركَته وانصرفت ، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا صدر أبيه فأحس به ، ففتح عينيه فرآه فابتسم لمرآه وضمَّه إلى صدره ضمّة الرفق والحنان ، وأدنى فمه من وجهه ليقبله ، ثم انتفض فجأة واستسرَّ بِشْرُهُ ، ودفعه عنه بيده دفعة شديدة وأخذ يَصيح:
- أبعِدوه عني لا أعرفه!.. ليس لي أولاد ولا نساء ، سلوا أمه عن أبيه من هو واذهبوا به إليه ، لا ألبس العار في حياتي وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي.
__________________
|