وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به ، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح:
- أرجعوه إليّ ، فعادت به المرضع ، فتناوله من يدها وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول:
- في سبيل الله يابنيّ ما خلّف لك أبوك من اليتم ، وما خلفت لك أمك من العار ، فاغفر لهما ذنبهما إليك ، فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال صدمة القضاء فسقطت ، وكان أبوك حسن في جريمته التي اجترمها ، فأساء من حيث أراد الإحسان. سواءً أكنتَ ولدي يا بني ، أم ولد الجريمة ، فإني قد سعدت بك حقبة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً ، ثم احتضنه إليه ، وقبله ، في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم ، أو المحسن الكريم!..
وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمّى ، وغلت نارها في رأسه ، وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خِفْتُ عليه التلف ، فأرسلت وراء الطبيب ، فجاء وألقى عليه نظره طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً.
ثم بدأ ينزع نزعاً شديداً ، ويئن أنيناً مؤلماً ، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا ارْفَضَّت عن كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها.
فإنا لجلوسٌ حوله وقد بدأ الموت يسبل أستاره السوداء على سريره ، وإذا امرأة مؤتزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة ، وتقدمت نحوه ببطء ، حتى ركعت بجانبه ، ثم أكبّت على يده الموضوعة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له:
- لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك ، فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك ، أنها وإن كانت قد دنت من الجريمة ، ولكنها لم ترتكبها ، فاعف عني يا والد ولدي ، واسأل الله عندما تقف بين يديه أن يلحقني بك ، فلا خير لي في الحياة من بعدك.
ثم انفجرت باكية ، ففتح عينيه ، وألقى على وجهها نظرة باسمة ، كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى .
الآن عدتُ من المقبرة بعدما دفنتُ صديقي بيدي وأودعت حفرة القبر ذلك الشباب الناضر ، والروض الزاهر ، وجلست لكتابة هذه السطور وأنا لا أكاد أملك مدامعي وزفراتي ، فلا يهوّن وجدي عليه إلا أنَّ الأمّة كانت على باب خطر عظيم من أخطارها ، فتقدم هو أمامها إلى ذلك الخطر وحده ، فاقتحمه..
__________________
|