عندما دخل الجيش المصريفلسطين في 15 مايو1948 كنت مدرساً بمدرسة المشاة وقد أرسلت حكومة مصر في ذلك الوقت لجاناً لشراء الأسلحة من دول أوروبا. وكانت الأسلحة الخاصة بسلاح المشاة ترسل عينة منها لمدرسة المشاة لتجربتها وتدريب الضباط والجنود الجدد عليها قبل إرسالهم لميادين القتال. وفي يوم من الأيام الأخيرة لشهر مايو1948 كلفت بترجمة كتاب من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية عن سلاح جديد اسمه Bigit mortar اشترته إحدى لجان مشتريات السلاح من أسبانيا.
وأثناء قيامي بعملية الترجمة في مدرسة المشاة حضر البكباشي عبد العليم منصور مهران ومعه البكباشي مهندس مصطفى النيال وقالا تفضل معنا إلى تبة البندرول (جبل صغير بالقرب من مدرسة المشاة) لتجربة السلاح الجديد. فقلت لهما تفضلا وسألحق بكما بعد أن أتم جمع الورق الموجود في يدي وأحفظه تحت القفل في الخزينة. فذهب البكباشي مهران والبكباشي النيال إلى مكان التجربة عند تبة النبدرول ، وذهبت لألحق بهما بعد قليل من الوقت لا يتجاوز ربع ساعة فسمعت صوت انفجار شديد تحطم على أثره زجاج شبابيك مدرسة المشاة ، فأسرعت عدواً إلى تبة البندرول فوجدت أنهم أطلقوا أول دانة من هذا المدفع فانفجرت الدانة داخل الماسورة الخاصة بالمدفع. وقتل البكباشي مهران وأصيب المهندس النيال إصابة خطيرة في رأسه أودت بحياته بعد ذلك كما قتل تسعة من ضباط الصف المعلمين من قوة مدرسة المشاة كانوا جميعاً في التجربة مع البكباشي مهران والمهندس النيال.
وأرى أن المسئول الأول عن إحضار الأسلحة الفاسدة لمصر هي اللجان التي أرسلت إلى أوروبا لشراء الأسلحة والذخائر وأستبعد تماماً أن يكون الملك فاروق شريكاً في هذه الجرائم لأن الملك هو القائد الأعلى للجيش وانتصار الجيش فخر للملك ولا شك في هذا مع العلم بأنه لم يرسل إلى ميدان القتال بفلسطين سنة 1948 أية أسلحة فاسدة لأن السلاح كان يجرب في مصر قبل إرساله إلى ميدان القتال.
ب- اشتراكي في حرب فلسطين سنة 1948
قررت رئاسة الجيش المصري إنشاء لواء مشاة جديد لتعزيز القوات المسلحة المصرية فتقرر إنشاء اللواء الرابع المشاة من الكتائب 10- 11- 12 وللعلم فقوة الجيش المصري من المشاة حينما قامت حرب فلسطين في 15 مايو1948 لم تكن تزيد على 3 لواء مشاة تشمل الكتائب من رقم 1- 9.
وفي 30/ 6/ 1948 تقرر نقلي من مدرسة المشاة إلى الكتيبة 12 مشاة ثم نقلت يوم 4/ 10/ 1948 إلى الكتيبة العاشرة المشاة قيادة القائم مقام عثمان بك فهمي عبد الرءوف وفي 18- 10- 1948 تحركت الكتيبة العاشرة المشاة إلى فلسطين من معسكر هاكستب بالسكة الحديد رأساً إلى مدينة غزة وحينما نزلنا من القطار في محطة غزة الفلسطينية كان موقف القوات المصرية حرجاً للغاية ، إذ قطع اليهود خط مواصلات الجيش المصري شمال غزة بعد أن استطاعوا قوة يهودية احتلال بلدة بيت حانون يوم 16/ 10/ 1948.
وبذلك قطعت مواصلات القوات المصرية ما بين غزة والقوات الموجودة في المجدل وأسدود شمالاً على الطريق الساحلي. وكلفت قيادة حملة فلسطين الكتيبة العاشرة التي أخدم بها باحتلال موقع دفاعي حول مدينة غزة الفلسطينية.
ثم صدرت لنا الأوامر بتسليم غزة لكتيبة أخرى والتحرك جهة الشرق لاحتلال مدينة عسلوج. ثم صدرت لنا الأوامر بإخلاء العسلوج وتسليمها لقوة أخرى والتوجه إلى دير البلح على الطريق الساحلي وعين للكتيبة العاشرة المشاة التي أخدم بها قطاع للدفاع عنه كانت من ضمنه التبة 86.
ج- شاهد عيان على بسالة الإخوان المسلمين
نقض اليهود الهدنة يوم 23/ 12/ 1948 وهاجموا مرتفعاً حاكماً يقع شرق الطريق الساحلي المرصوف (طريق رفح/ تل أبيب) وهذا المرتفع يعرف بالتبة 86 في قطاع دير البلح وكان هذا التل يقع ضمن القطاع الذي تحتله الكتيبة العاشرة التي أخدم بها.
هاجم اليهود التبة 86 ليلاً فاقتحموا مواقع المشاة بالسلاح الأبيض وقتلوا الحراس وفر بعض الجنود مذعورين من هول المباغتة. وكان نجاح اليهود في احتلال التبة 86 معناه عزل حامية غزة وتمثيل مأساة الفالوجا مرة أخرى.
ولقد تولى الأمير ألاي محمود بك رأفت قائد قطاع دير البلح إدارة معركة استرداد التبة 86. فطلب من القائد العام فؤاد صادق إرسال قوة من الإخوان المسلمين لاسترداد التبة 86 ورغم أن قرار حل الإخوان كان قد صدر في 8/ 12/ 1948 فقد ظل الإخوان المسلمون يؤدون واجبهم المقدس في مجاهدة أعداء الله رغم ما كانت تصلهم من أنباء مثيرة عن الإرهاب ضد إخوانهم في مصر.
وكلفت قيادة حملة فلسطين سرية من كتيبة الإخوان المسلمين الثالثة والتي كانت موجودة كاحتياط للقيادة العامة في معسكر رفح باسترداد التبة 86.
وبدأت معركة استرداد التبة 86 الساعة 2 بعد ظهر يوم 24/ 12/ 1948 بإطلاق المدفعية المصرية غلالة من النيران فوق التل أتبعتها بستارة من الدخان ثم تقدمت قاذفات اللهب المركبة على حمالات مدرعة يتبعها شباب الإخوان المسلمين. ولما اقتربت قوة الإخوان من التبة 86 سكتت المدافع وانطلقت قاذفات اللهب تصب حممها على التبة وورع اليهود حين رأوا الإخوان يلقون بأنفسهم عليهم فوق الخنادق وسط اللهب ويعاركونهم بالسلاح الأبيض ورغم كثرة الضحايا من الإخوان فقد تمكنوا من استرداد التبة 86 وفتكوا بمن كان فيها من اليهود فلم ينج منهم أحد.
وطلب اللواء فؤاد صادق الإنعام بأوسمة عسكرية على الإخوان الذين استردوا التبة 86 فماطلت حكومة السعديين غير أن الرجل الشجاع أصر على رأيه مما اضطر الحكومة إلى إجابته إلى مطلبه.
وصدرت النشرة العسكرية تحمل أسماء خمسة عشر من الإخوان المسلمين المصريين ثم تتابعت النشرات العسكرية تحمل الإنعام الملكي على أبطال الإخوان المسلمين في حرب فلسطين.
ومن المضحك والمبكي في وقت واحد أن تصدر النشرات العسكرية وفيها عتراف رسمي ببطولة الإخوان المسلمين وهو اعتراف من قيادة الجيش المصري بشجاعتهم وصدق جهادهم ثم هو اعتراف بفضل قائد الدعوة الإمام حسن البنا.
في هذا الوقت بالذات كان الإخوان يقاسون مرارة الاعتقال والتعذيب ويعيشون كالمجرمين وراء الأسوار. وهكذا أباحت العقلية المتناقضة لنفسها أن تعامل طائفة من الناس على أنهم أبطال ومجرمون في آن واحد.
د- المعارك الأخيرة في النقب
قام اليهود يوم 25/ 12/ 1948 بحركة التفاف قصدوا منها عزل القوات المصرية بفلسطين عن قاعدتها الإدارية بالعريش. وكان موقف القوات المصرية في آخر ديسمبر1948 على النحو التالي :
1- قوات الجيش المصري النظامي تحتل قطاع غزة/ رفح.
2- قيادة القوات المصرية في رفح.
3- مجموعة لواء مشاة مصري محاصر في الفالوجا.
4- مجموعة لواء مشاة مصري تحتل قطاع العسلوج والعوجة.
5- قوات الكتيبتين الأولى والثانية من متطوعي الإخوان المسلمين تحتل قطاع (بيت لحم - الخليل - صور باهر) وقد عزلت هذه القوات بعد حصار الفالوجا عن القيادة العامة المصرية لحملة فلسطين في رفح.
6- الكتيبة الثالثة من متطوعي الإخوان المسلمين في معسكر رفح كاحتياط تحت يد القائم العام لحملة فلسطين.
وفي يوم 25/ 12/ 1948 اكتسح اليهود القوات المصرية الموجودة في عسلوج والعوجة ثم دخلوا سيناء واحتلوا أبو عجيلة فوجدوها خالية وواصل اليهود تقدمهم في اتجاه العريش واشتبكوا مع طلائع الجيش المصري في مرتفعات بيرلحفن.
وفي الوقت نفسه تعرضت رفح لهجوم شديد واحتل اليهود تبة الأسرى المواجهة لرفح. ولقد أبدى الضباط المصريون من مختلف الرتب كثيراً من الجرأة واستبسلوا في الدفاع عن مواقعهم ووقف اليهود على أبواب رفح والعريش ولم يستطيعوا اقتحام مواقع الجيش المصري واضطروا إلى التراجع بعد أن كبدهم المصريون خسائر فادحة وقام الطيران المصري بضرب فلول القوات اليهودية المنسحبة حتى أخرجوهم تماماً من صحراء سيناء.
وانتهت حرب فلسطين باتفاق رودس سنة 1949 وكان من شروط الاتفاق سحب الجيش المصري كله من فلسطين ويكتفي بلواء مشاة فقط في قطاع غزة/ رفح.
وقد وقع اختيار قيادة الجيش المصري على اللواء الرابع المشاة الذي كنت أخدم فيه للبقاء في فلسطين بقطاع غزة/ رفح وتم سحب قوات الفالوجا وباقي قوات الجيش المصري إلى سيناء ومنطقة القنال ووادي النيل. وطلبت القيادة المصرية من الإخوان المسلمين برفح تسليم أسلحتهم ومعدات الحرب تمهيداً لترحيلهم لمصر.
وسلم الإخوان أسلحتهم بلا مناقشة وبدون أي اعتراض وبعد انتهاء تسليم الأسلحة تم نقل الإخوان إلى عنبر كبير جداً في رفح كان من عنابر الجيش البريطاني قبل جلاء الإنجليز عن رفح. وقيل للإخوان إنهم سيبيتون في هذا العنبر ليلة واحدة ليركبوا القطار في الصباح إلى القاهرة.
هـ- تعييني قائداً لمعتقل رفح
وقع اختيار قيادة حملة فلسطين علي للإشراف على معتقل الإخوان المسلمين برفح... وطلب مني اللواء فؤاد صادق حسن معاملة هؤلاء المعتقلين قائلاً : لقد شارك هؤلاء الشباب من الإخوان المسلمينالجيش المصري في الجهاد ورووا بدماء شهدائهم أرض فلسطين وكانوا جنوداً أبطالا أدوا واجبهم كأحسن ما يكون الأداء.
فلا أقل من أن تجيب لهم كل طلباتهم المعقولة ولا تشعرهم بالندم على ما قدموه من تضحيات من أجل بلادهم فقلت له : سأبذل جهدي وانصرفت وقلت لنفسي : أهكذا جزاء المجاهدين الصادقين في هذا البلد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فوجئ الإخوان صباح اليوم التالي فوجدوا العنبر محاطاً بقوات مسلحة من الجيش المصري ورأيت أن أخطرهم بالحقيقة فقلت لزعمائهم إن الحكومة المصرية قد أصدرت تعليماتها لقيادة الجيش المصري بفلسطين باعتقال الإخوان المجاهدين فترة من الزمن حتى تهدأ الأحوال في مصر. وقلت لهم إنهم سيلقون معاملة كريمة جزاء ما قدموه من تضحيات لأمتهم وإن جميع طلباتهم المعقولة مجابة وأرجو ألا تتسببوا في إحراجي لأني أنفذ الأوامر الصادرة إلى من رؤسائي.
وجاء اللواء فؤاد صادق في اليوم التالي فقال إن الحكومة المصرية طالبته مراراً باعتقال الإخوان المسلمين المقاتلين وكان يراوغ بحجة احتياجه لهم في القتال الدائر على أرض فلسطين. فلما انتهت الحرب اضطر لتنفيذ أوامر الحكومة. وأصدر أمراً لي أمام الإخوان بتلبية جميع طلباتهم المعقولة وقال الرجل علناً أمام الإخوان « إن الجيش المصري لن يستطيع أن يفي هؤلاء الإخوان حقهم من الإكرام وليس في وسعه إلا أن يواسيهم في محنتهم كما وقفوا معه واستبسلوا في معاونته.
ظل الإخوان في المعتقل شهرين ثم انضم إليهم إخوان صور باهر بقيادة اليوزباشي احتياط محمود عبده ثم انضم إليهم إخوان بيت لحم والخليل. ومضت حياة المعتقلين هادئة قطعها الإخوان في العبادة وطلب العلم.
حوادث مؤسفة بمصر
بعد 20 يوماً من صدور قرار حل الإخوان المسلمين اغتال شاب من الإخوان المسلمينمحمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء (الذي أصدر قرار الحل).
وتم الاغتيال داخل مبنى وزارة الداخلية وكان اغتياله يوم 28/ 12/ 1948.
وبعد 44 يوماً من قتل النقراشي اغتيل الشيخ حسن البنا يوم 12/ 2/ 1949 في الساعة 8 مساء أمام مبنى جمعية الشبان المسلمين.
وكان قتل حسن البنا بتدبير من الملك فاروق ورئيس وزرائه وكان قتل حسن البنا للأسباب الآتية :
1- انتقام حرب السعديين من الإخوان المسلمين لمقتل النقراشي.
2- تخلص الملك فاروق من زعامة شعبية قوية قادرة على اتخاذ قرارات إيجابية وتنفيذها.
لقد كان للجيش المصري 12 كتيبة مشاة تقاتل في فلسطين عام 1948 وكان لحسن البنا 3 كتائب مشاة من متطوعي الإخوان المسلمين تقاتل مع الجيش المصري بفلسطين.
والملك فاروق هو القائد الأعلى للجيش المصري وهو الذي أصدر القرار للجيش المصري بدخول فلسطين سنة 1948 وكانت حكومة فاروق هي التي تسلح وتدرب كتائب الإخوان وقادة كتائب الإخوان ضباط من جيش مصر العامل.. ولو ترك حسن البنا على حريته لدفع إلى فلسطين بعشرات من الكتائب الإخوانية ولتغيرت نتيجة حرب فلسطين لا محالة.
وخشي الملك فاروق أن يطمع حسن البنا في حكم مصر وبخاصة بعد أن ظهرت بسالة وفدائية متطوعي الإخوان في الحرب فقرر التخلص من الشيخ حسن البنا بقتله غلية.
وساهمت اليهودية العالمية من وراء ستار في اغتيال حسن البنا بأن أوحت إلى الإنجليز الذين أوحوا بدورهم لفاروق وحذروه من خطر حسن البنا على عرشه.
وكانت قوة التنفيذ مستعدة. لقد اغتيل النقراشي وسط وزارة الداخلية حيث توجد قلعة البوليس السياسي.
وكان الإخوان قد وجهوا عدة ضربات مركزة إلى البوليس السياسي الذي أنشأه الإمام حسن البنا والمحتل الإنجليزي والقضية المصرية|الإنجليز]] للتجسس على المصريين ومعاونتهم على قهر الحركة الوطنية المصرية.
وكانت هذه الضربات قد بدأت منذ عام 1946 بعمليات حربية على شكل حرب عصابات ضد قوات الاحتلال البريطاني والتي كان يوجهها التنظيم الفدائي السريللإخوان بقيادة عبد الرحمن السندي وبتوجيه وتدريب من عبد المنعم عبد الرؤوف وجمال عبد الناصر وكاتب هذه السطور.
وفي 4 ديسمبر سنة 1948 اغتيل اللواء سليم زكي حكمدار بوليس القاهرة ورئيس البوليس السياسي.
وقد أسدل على جريمة اغتيال حسن البنا ستار من الصمت حتى قامت ثورةيوليو1952.
ففي 27 يوليو1952 أعيد فتح ملف قضية مقتل حسن البنا وجاء وكيل النيابة إلى معتقل الكلية الحربية وأذكر اسمه (سري) وبدأ التحقيق بحضوري مع المهتمين الذين أودعوا معتقل الكلية الحربية عقب نجاح الثورة مباشرة وقدم المتهمون في مقتل حسن البنا للمحاكمة في أغطس1954 وقد حكم على المخبر أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة المؤبدة وحكم بـ 15 سنة أشغال شاقة على كل من الأميرالاي محمود عبد المجيد والسائق محمد محفوظ وسنة مع الشغل للبكباشي محمد الجزار من قوة البوليس السياسي في عهد الملك فاروق.
وعقب محاولة اعتداء بعض من كانوا ينتمون للإخوان على جمال عبد الناصر سنة 1954 أفرج جمال عبد الناصر عن قتلة حسن البنا نكاية في الإخوان.