
16-03-2013, 05:48 PM
|
مــٌــعلــم
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,936
معدل تقييم المستوى: 19
|
|
ومن الأمثلة العظيمة أيضًا التي تدل على احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزعماء غير المسلمين ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على تكراره من ثناء ومديح للنجاشي ملك الحبشة.. فإنَّه ما تردد صلى الله عليه وسلم أن يقول صراحةً: «إن بها مَلِكًا لا يُظلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ». إنه يمدح الملك النصراني بشيء هو فيه فعلاً، ولابد لكل إنسان من شيء إيجابي فيه يستحق المدح، ولكن ليس كل الناس قادرين على إبراز الحُسْنِ عند غيرهم، بل يعتقد بعض قاصري الفهم من المسلمين أنه يجب ترك الثناء على غير المسلمين خوفًا من أن يكون هذا نوعًا من الموالاة أو التودد المرفوض. ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن النصرانية التي كانت في الحبشة آنذاك كانت نصرانية محرَّفة كأي مكان في الدنيا، وظهر ذلك في موقف البطارقة من كلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن المسيح عليه السلام، ومع ذلك فهذا التحريف لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر محاسنهم والثناء على فضائلهم.
ولم يكن هذا السلوك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه زعماء غير المسلمين سلوكًا عابرًا في حياته، وإنما كان أصلاً من الأصول التي يحتكم إليها صلى الله عليه وسلم في كل تعاملاته معهم، ويظهر هذا جليًّا في رسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض وزعمائها، فهو لم يختص واحدًا دون الآخر باحترام أو توقير، وإنما عاملهم جميعًا بمنتهى الدبلوماسية، وبأعلى درجات الأخلاق بصرف النظر عن مللهم ونحلهم: فقد كان مِنْهُمُ النصارى، ومنهم المجوس، ومنهم عبدة الأوثان، كما أنه لم ينظر إلى أعراقهم.. بل عظَّم الجميع من عرب ومن عجم..
لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة رسائل إلى ملوك الأرض, حينذاك دعاهم فيها إلى الإسلام، وكان اللافت للنظر أنه في كل رسائله كان يصف الملك أو الزعيم بالعظمة، ولم يتحرِّجْ من وصف رجل غير مسلم منحرف العقيدة بهذا الوصف..
يقول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى قيصر الروم: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم…».
ويقول كذلك في رسالته إلى كسرى فارس: «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس…».
ويقول في رسالته إلى المقوقس زعيم مصر: «من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط…».
وإلى النجاشي زعيم الحبشة: «هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة...».
وهكذا كانت رسائله صلى الله عليه وسلم، تفيض احترامًا وتقديرًا على الرغم من اختلاف العقيدة والعرق مع من يراسلهم، فالتعامل الأخلاقي تعامل إنساني لا يرتبط بأرض أو زمان.
المطلب الثالث: عدم التشفي في قادة الأعداء عند انكسارهم!
وهذا خلق عجيب من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم، فكل إنسان ذاق ظلمًا، أو شعر بألم، يتمنى في قرارة نفسه أن يرى هذا الذي أذاقه الظلم وأشعره بالألم يذوق من نفس الكأس التي أذاقها له. إن هذا شعور فطري غريزي عند كل الناس، حتى قال ربنا في كتابه وهو يصف فوائد القتال في سبيل الله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] فجعل شفاء صدور المؤمنين أحد الفوائد المهمة للمقاتل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان طرازًا فريدًا من البشر، فكان لا يحب أن يرى عدوه منكسرًا، ولا ذليلاً، بل كان يرفع من همَّته، ويشجعه، وينزله مكانته، ويعطيه، وكأنه أحد المقربين إليه!! ولنأخذ مثالين فقط على هذا الأمر، فالمجال لا يتسع للتفصيل.
أولاً: أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع عدي بن حاتم زعيم قبيلة طيئ:
كانت قبيلة طيئ من القبائل التي قاومت الإسلام بشدة، ولفترة طويلة، وقد كان لها من الخلفيات ما يجعل قبولها للدخول في الدين الجديد "الإسلام" صعبًا، فقد كانت من فروع ربيعة القحطانية، وهم فرع بعيد جدًا عن فروع قريش العدنانية، ومن ثم فالحساسية القَبَلِيَّة بينها وبين قريش كانت على أشدِّ ما يكون، وكان لقبيلة طيئ صنمها الخاص بها واسمه: "الفِلْس"، وكان الناس يزورونه من أماكن بعيدة.. ثم إن فريقًا منهم تَنَصَّرَ ويَمَّمَ وجهه شطر الدولة الرومانية، فحالفها وتعاون معها، فتجمعت بذلك عدة عوامل تمنع هذه القبيلة من قبول فكرة الإسلام: أمور قبلية، وأمور عقائدية، فضلا عن موالاتهم للدولة الأولى في العالم وهي الدولة الرومانية..
فإذا أضفت إلى كل ذلك أنهم كانوا من القبائل القوية التي تبسط سيطرتها على مساحات شاسعة في الجزيرة؛ حتى لم يكن يأمن أحد على سفره إلى العراق أو الشام إلا بموافقةٍ وقبولٍ من رجال قبيلة طيئ.. إذا أضفت ذلك علمت أن تفكيرهم في الإسلام سيكون متأخرًا جدًا.
ثم تدرك مدى عداوتها للإسلام حين تعلم أنَّ من أبنائها كعب بن الأشرف الزعيم اليهودي المشهور، الذي ناصب المسلمين العداء في كل مكان؛ فقد كان أبوه من طيئ، وأمُّه من بني النضير، ولما اشتدَّ كيدُه للمسلمين وألَّب عليهم الجزيرة العربية بكاملها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ب***ه، فقُتل، وفقدت طيئ بم***ه رمزًا هامًا من رموزها بين العرب.
لقد كان على رأس هذه القبيلة العزيزة عدي بن حاتم الطائي، وهو ابن الزعيم العربي الشهير: "حاتم الطائي"، والذي كان مضربًا للمثل في الكرم وحسن الضيافة.. وقد شعر "عدي بن حاتم" أن البساط يُسْحَبُ من تحت أقدامه، وأن مكانته تَهتَزُّ في الجزيرة العربية؛ فحقد حقدًا شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول: "بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين بُعث، فكرهته أشد ما كَرِهْتُ شيئًا قط".
ومرَّت الأيام، وفُتِحَتْ مكة، وآمن أهلها، وأسلمت هوازن، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا هنا وهناك تَهْدِمُ الأصنام التي تُعْبَدُ من دون الله، وكان من السرايا التي أرسلها صلى الله عليه وسلم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قبيلة طيئ لهدم صنم الفلس، وقاومت طيئ مقاومة شديدة.. ثم إنهم فَرُّوا في كلِّ مكانٍ، وأُسِرَ بعضُهم، وفَرَّ عدي بن حاتم إلى حلفائه من ملوك الشام، وأُسِرَتْ أخته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنَّ عليها بغير فداء، فانطلقت إلى الشام تدعو أخاها إلى القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: "لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبًا، أو راهبًا" !!
وكان عدي بن حاتم قد كره حياته كلاجئ في غير بلاده. ولنترك له الأمر ليُصَوِّرَ حاله حينئذ..
يقول عدي: "فكرهت مكاني الذي أنا فيه، حتى كنت له أشد كراهية له مني من حيث جئت، فقلت: لآتينَّ هذا الرجل، فوالله إن كان صادقًا فلأسمعنَّ منه، وإن كان كاذبًا ما هو بضائري".
وجاء عدي بن حاتم إلى المدينة المنورة، وهو في هذه الحالة المنكسرة، وهو في هذا الضعف الذي لا يَخْفَى على أحد، فماذا فعل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
يقول عدي: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لَقِيَته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك! ثم أكمل عدي: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل في بيته تناول وسادة في أدم محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه». قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: "بل أنت"، فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض! قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك !!
وصدق عدي – والذي خَبِر الملوك وعرفهم – فليس هذا سلوك الملوك!
إنه صلى الله عليه وسلم لم يعلِّق تعليقًا سلبيًا على حرب عدي السابقة له، ولم يقل له ما الذي جاء بك بعد فرارك؟ ولم يقل له أين حلفاؤك من الرومان؟ بل لم يسأله ماذا تريد؟! لقد أخذه ببساطة عجيبة إلى بيته دون أن يؤمِّن الطرق، أو يصفَّ الحرس، وفي طريقه إلى البيت وقف يتحدث مع امرأة عجوز في تواضع عجيب، ثم أدخله بيته المتواضع جدًا، والذي لم يكن فيه إلا وسادة واحدة بسيطة، فقدَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي ليجلس عليها، فاستحيا عدي، وقال: بل أنت، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على جلوس الزعيم الطائي عدي بن حاتم، وجلس هو على الأرض!!!
(يتبع )
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي
بإدارة الجمالية التعليمية
دقهلية
أمين اللجنة النقابية للمعلمين
|