الديمقراطية والدين
المسلّمات أو المبادئ الأولية للحكم الديمقراطي العلماني والحكم الديني " التيوقراطي" مختلفة كليا. نحن أمام منظومتين مختلفتين من حيث التكوين والشرعية والأهداف. في الحكم الديني، تعتبر الحقائق منزلة، لها الأولوية على التفكير الفلسفي وحتى على الحقائق العلمية. التشريع في التيوقراطية، يستند أساسا على نصوص دينية "مقدسة" لا يمكن تغييرها. كل ما فيها صالح لكل مكان وزمان وحقائقها مطلقة غير قابلة للتأويل أو التحريف.
في الدولة الدينية أي التيوقراطية، الشعب تحت وصاية الله. هذه الوصاية تتم بواسطة الأوصياء على الدين الذين غالبا ما يوكلون أنفسهم بأنفسهم ويشرحون للناس دينهم وجملة حقوقهم وواجبا تهم الخاصة والعامة. لكن في الواقع كل شرح للدين يعكس عقلية وثقافة شارحها واهتماماته وكذلك ثقافة عصره، يفرضها على المواطنين-المؤمنين فرضا دون أي نقاش أو نقد. يحق للناس في التيوقراطية ممارسة نوع محدود جدا من "الديمقراطية" تتعلق بشكليات الحكم وليس في أسسه. أي اجتهاد "ديمقراطي" يجب أن يدور داخل إطار التشريع الإلهي المفترض، لا يمكن قبول أي تشكيك بأصوله أو الخروج عنه.
الحكم الديني يستند الى عقائدية مطلقة وشمولية. يحاول تفسير كل شيء، بماضيه وحاضره ومستقبله ويرى أن "الدين هو الحل" الأمثل لتسيير شؤون العالم. لذا فلا مكان لغيره من الأفكار التي لاتنسجم معه، مما يؤدي حتما إلى صراع دائم مع "الآخرين" وإلى ديكتاتورية وطغيان واستعباد. فكل خلاف معه يصبح كفرا وخروجا عن الصراط المستقيم. هذا الفكر الديني السياسي والشمولي والمتكبر والمتعجرف، يحرّم كل من لا يسير في رحابه. يستعمل الغلو والتزمت والانغلاق ويأمر بالطاعة الكاملة. فهو غير قادر على قبول التعددية لا بالفكر ولا بالسلوك، لا يقبل تداول السلطة بشكل شرعي بين أحزاب متعددة، إلا إذا كانت مرحلية وفي مصلحة وصوله إلى الحكم، ومن ثم القضاء النهائي على التعددية الديمقراطية. فالتعامل مع غير "المؤمنين" به يصبح بحكم المنطق التيوقراطي تعاملا بمعايير غير التي تعامل به جماعاتهم. فالقوانين تصبح مجحفة بحق "الملل" والمذاهب الأخرى والأقليات وغير المؤمنين الكفّار ... وتزول نهائيا المساواة بين المواطنين.
التعنت والتعصب الديني ناتج أيضا عن الصراع على السلطة بين التيوقراطيين الذين يتحركون غالبا ما تبعا لطموحاتهم الخاصة بتسخير الدين لغايات سياسية، مما يؤدي إلى شرذمة في الدين الواحد لظهور مذاهب متعددة وشيع وأحزاب دينية مختلفة والتي تصل في أغلب الأحيان، وهذا هو الخطر الأكبر، إلى صراع وحرب معلنة على بعضها البعض. كل فريق يدعي ملكية "الحقيقة الإلهية" الكاملة لتسيير أمور الناس في هذا العالم وفي العالم الآخر. يرى في الآخرين " خوارج" إن لم يكن كفارا يجب محاربتهم أو على الأقل ضبطهم بالقوة ليعوا الحقيقة. هم يميلون إلى المزايدات في دعوا تهم لدرجة الخروج عن بديهيات العلاقات الإنسانية والتي تؤدي في بعض الظروف إلى جرائم وحشية. كل هذا تحت شعارات دينية. حركة الطالبان وحركة القاعدة وكثير من الحركات الجهادية الدينية المنتشرة في كثير من البلاد العربية والإسلامية وحتى الغربية أطهرت وجها بشعا للدين. وعراق اليوم بعد الغزو الأمريكي مثلا فاضحا لهذا التعصب الناتج خاصة عن اقحام الدين بالسياسة.
المؤشرات الصادرة عن الحكومات العربية ذات الطابع الديني للإخوان المسلمين وغيرهم من الاصوليين، التي وثبت على ثورة الشباب لعام 2011 في تونس وليبيا ومصر والمغرب، بسبب خبرتهم التنظيمية ودعايتهم المدعومة بأموال هائلة من أهل البترول، تبين بشكل واضح أن الربيع العربي الديمقراطي سوف يمرّ في شتاء قارص وجامد لعقود قادمة. يعيد الديكتاتوريات تحت غطاء ديني سيكون أكثر هولا مما سبق. إحياء الربيع الديمقراطي العربي يحتاج حتما الى وعي الشبيبة التي بدأت الثورة. من الضروري تكوين أحزاب سياسية ديمقراطية غير دينية وتوعية الجماهير العربية وخاصة الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي يحاول الاخوان وأعوانهم السيطرة عليها بسبب بعض المعونات والخدمات الاجتماعية التي قدموها لهم خارج نطاق الدولة، من أموال الوهابيين ومن بعض دول الخليج ومن حركات اسلامية متزمتة خارج العالم العربي.
الحكم الديني من الناحية السياسية والعملية،بسبب جموده العقائدي، لا يستطيع تسيير أمور الدولة. تعقد مشاكل الدولة الحديثة من سياسية واقتصادية وعلمية وثقافية وعلاقات دولية تحتاج بالأحرى إلى عقليات منفتحة ومرنة للتعامل مع دول وشعوب ذات معتقدات وديانات مختلفة. وتحتاج خاصة إلى أخلاقيات عامة متعارف عليها في القوانين الدولية لتحسين رفاهية الشعب وضمانة استقلاله والعمل لحسن الجوار وللسلام العالمي.
الكلام عن ديمقراطية دينية هو نفاق لأنه غير صحيح، غير ممكن، غير منطقي وغير واقعي. كيف يمكن الكلام عن ديمقراطية "أي حكم الشعب" عندما يصبح الشعب تحت سيطرة رجل الدين-السياسي، أو السياسي الذي يجعل من الدين هوية المواطنة، الذي يحدد ما يجب وما لا يجب فعله في الحياة الخاصة والعامة؟ الانتخابات الإيرانية النيابية (2005) والرئاسية (2009) مثلا أثبتت عن عدم احترام المبادئ الأساسية للديمقراطية. السلطة الدينية اختارت المرشحين تبعا لعقليتها وعقيدتها ورفضت مئات غيرهم وتم تزوير أوراق الانتخابات الرئاسية بشكل فاضح. وجود انتخابات بهذا الشكل لا علاقة له بالديمقراطية ولكنها منسجمة مع الحكم التيوقراطي .لأن أساس السلطة لا تصدر عن الشعب ولكن عن سلطة "غيبية " تعلو عليه، يتحكم بها أوصياء الدين ومن يدور في فلكهم، والذين يدّعون أنهم يمثلون الله على الأرض.
التجارب التيوقراطية في العصور الوسطى في الغرب وفي العصور الحديثة في أفغانستان والسودان والصومال والسعودية وإيران واليمن وباكستان وفي دول يلعب الدين دورا أساسيا في وضع الدساتير والقوانين المدنية، أسفرت كل هذه التجارب عن تعد فاضح على حقوق الإنسان وخاصة حقوق المرأة. وشّلت حركة المجتمع وتطوره وأبقت على عقلية رجعية متزمتة غير متأقلمة مع العصر وغير متطورة ثقافيا وفكريا وإنسانيا. وقد ظهر في هذه الدول حركات إرهابية تربت على كراهية الآخر مهما كان وفي أي مكان كان.
الدولة الدينية تسقط المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة وتضع لها قالبا محددا تنسبه للمشروع الإلهي والى "طبيعة" المرأة، لا يجوز الخروج عنه. وتبعد الأخيرة عن المشاركة الفعالة والكاملة في شؤون الدولة والمجتمع فهي تابعة لإرادة الرجل , ولنزواته ال***ية الأنانية. ومصيرها يتم حسب رغباته الرجولية، لأنها "طبيعيا"أدنى منه .
يبين واقع المجتمعات المتقدمة أن الفوارق بين الرجل والمرأة مصطنعة تعود إلى العادات والى التربية وليست إلى "طبيعة المرأة" . هذا التخلف الجذري في عقلية التيوقراطيين "الذكور" ينعكس سلبا على المجتمع ككل. ليس من الأخلاق والمعقولية والفعالية أن يوضع نصف المجتمع (النساء) خارج التقدم الاجتماعي والسياسي دون ضرر عميق بالنساء وبكل الأجيال الحالية والقادمة. تبين دراسة الأمم المتحدة أن تخلف "التنمية الإنسانية العربية" تعود بشكل أساسي إلى عدم إشراك المرأة في المجتمع وعدم مساواتها بالرجل و"حجبها" عن المجتمع الفعاّل.
رغم وعود وآمال الربيع العربي بتحرير المواطن العربي من كافة أنواع العبودية، فإن الواقع بعد عام من ثورة الكرامة العربية لم يتحسن وضع للمرأة في الساحة السياسية بل على عكس ذلك. البرلمانات العربية، حسب تقرير للأمم المتحدة 2012، تحوي 10،7% لمقاعد السيدات. المنطقة العربية هي الوحيدة في العالم التي لم تصل فيها نسبة السيدات كحد أدنى الى 30% من مقاعد المجالس النيابية. تبعا للتقرير الأممي هناك مثلا تحسنا في حالة المملكة المغربية التي حددت نسبة 16،7% للسيدات. بالمقابل خسر البرلمان التونسي لعام 2011 مقعدين لهن. والاغرب من ذلك تدنت نسبتهم في برلمان مصر " أكبر دولة عربية" من 12% قبل الثورة الى 2% ! بينما يلاحظ تقدما عالميا في نسبة النساء في هذه المجالس النيابية. بالمقارنة، نسبة السيدات مثلا في نيكاراكوا، الدولة الصغيرة ذات الدخل القومي المتواضع، هي 40% ، تقترب نسبتهن الى معدلات الدول الاسكندنافية 42%. مما يظهر جليا أن وصول الاحزاب ذات الاتجاهات الدينية تحد من تحرر المرأة وتعيد العالم العربي الى عصور مظلمة وظالمة لهنّ بشكل خاص وللمجتمع بشكل عام.
الخلفية الثقافية- الدينية-السياسية في مجتمعاتنا العربية عميقة الجذور. عقليتنا وتصرفاتنا مرهونة بماضينا. ثقافتنا العربية اليوم اجترار لهذا التراث الماضي، الذي أخذ مع الوقت نوعا من القدسية، غير قابل للنقاش أو للنقد أو للبحث التاريخي العلمي .تراثنا لا يشجع على الاختلاف والرأي الحر. وعينا التاريخي يضعنا بشكل غير عقلاني في صراعات مع ماض لا علاقة له مع حياة الناس في الواقع الحالي. هذه الخلفية الدينية ترفض الاختلاف معها لأن مواقفها صحيحة منذ البداية لأن المقدس لازمني حسب منظريها ، عندهم الحقائق محددة ثابتة وأزلية.
أما الديمقراطية العلمانية فهي تستند إلى فصل الدين عن الدولة وتميز بين الدنيوي والمقدس بشكل واضح. وتجعل من الدولة ومؤسساتها بما فيها معاهد التدريس مؤسسات حيادية بعيدة عن الروابط الطائفية أو الدينية أو الغيبية. الديمقراطية العلمانية ترفض تدخل رجال الدين والحركات الدينية في مصير الدولة وتفسح المجال لحرية الإيمان الديني أو عدم الإيمان دون أي إكراه لآن الدولة لا علاقة لها بمعتقدات الأفراد. هذه الدولة مفتوحة لكل المواطنين ذوي المؤهلات دون تمييز ما.
الجمهورية العلمانية الديمقراطية تريد حلولا لمشاكل المجتمع المعقدة صادرة عن تفكير عقلاني وعلمي وتجريبي. لآن الحلول لا يمكن أن تكون جاهزة سلفا في "الكتب الدينية المقدسة".
في الديمقراطية العلمانية، الفكر البشري هو الذي يولّد الدستور والقوانين ويحدد سير الدولة ومعاملاتها مع المواطنين ومع الدول الأخرى. وحقائقه نسبية تتطور في الزمان والمكان بعقلانية علمية تجريبية. سيادة الدولة تنبثق عن الشعب. حيث النقاش والحوار والنقد مفتوح دون قيود ملزمة ومتحجرة. في الديمقراطية لا يحق للأغلبية إسكات أقلية ما مناقضة ومخالفة للرأي العام. لأن حقيقة الأمور لا تظهر دون حرية الرأي. أهم مقدسات الديمقراطية تكمن في الدرجة الأولى في احترام حقوق الإنسان التي هي غاية الديمقراطية وذروة تطور الحضارة الإنسانية. إعلان حقوق الإنسان تعطي قيمة مطلقة للناس وتحرّم استغلالهم وتدافع عن كرامتهم وحقوقهم في مجتمع أكثر عدلا. في الديمقراطية العلمانية قبول وتسامح لكافة المعتقدات الدينية والعقائدية والمذاهب الاجتماعية.
العلمانية ليست مرادفة للديمقراطية. العلمانية يمكن أن تكون غير ديمقراطية كما هو الحال في بعض ديكتاتوريات الدول النامية. ولكن من الضروري أن تكون الديمقراطية علمانية ومحايدة دينيا وعنصريا حيث المواطنة مفتوحة للجميع دون تمييز.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية (1966) وغيرها من الاتفاقات الدولية التي أقرتها أغلب الدول العربية المنتسبة إلى هيئة الأمم المتحدة، تعبر تعبيرا واضحا عن علمانية الدولة والتزام هذه الدول بتطبيق مبادئها في بلادهم. لكن الدول العربية هي اليوم في مزايدات دينية ، غاياتها سياسية. فكل سياسي يتمسك ظاهريا بالفضيلة وبمظاهر الدين لخداع الناس والحصول على شعبية ما للسيطرة على الحكم.
في المجال العام (الدولة ومؤسساتها)
في المجال الخاص (الأفراد والجمعيات الدينية)
أصبح من الصعب في مجتمع حقوق الإنسان، العمل بمبدأ؛ على الدين أن يسيّر أمور المواطنين في كافة معتقداتهم ونشاطاتهم . الدولة الحديثة أخذت على عاتقها أمور المجتمع لإرضاء حاجات المواطنين المادية والمعنوية. أخذت عن الدين كثيرا من مهام كان يقوم بها رجال الدين من جمع الأموال للمحتاجين إلى رعاية الأطفال والمرضى والتعليم...
للحفاظ على مقومات الدين الأساسية يجب قبوله في مجال الإيمان بالعقيدة وممارسة الشعائر فقط وبشرط ألا يكون إكراها للضمائر. كإكراه الناس على الإيمان بالدين وممارسة طقوسه كما هو الحال في السعودية مثلا وقريبا في كثير من الدول العربية. في الدولة الديمقراطية من الضروري التسامح مع بقية الأديان والمعتقدات ومن غير المؤمنين بالدين واحترام الاستقلالية الأخلاقية للفرد. الإيمان أو عدم الايمان قناعة فردية يعود إلى حرية ضمير الفرد، لا دخل للسياسة والمجتمع فيه. المجتمع الذي يدفع الإنسان للإيمان قسرا أو عن طريق الدعاية المغرية والمغرضة ينزع قيم الدين ويشوه إيمان الفرد. مثل هذا الإيمان السطحي هو إيمان "خارجي" يرضي الآخرين ويدخل في مجال الطقوس و"التمثيل" والتظاهر الاجتماعي.
اجتماع الناس حول عقيدة دينية واحدة لا يعطيهم الحق بفرض إيمانهم على الآخرين أو توجيه سياسة الدولة والمجتمع حسب معتقداتهم. من الملاحظ تاريخيا أن الغرب نهض نهضة جبّارة عندما فصل الدين عن الدولة وحدد حقوق وواجبات المواطن بعيدا عن أوامر رجال الدين الذين كانوا يتدخلون في مجمل حياة الناس. "الطغيان" الديني يؤدي إلى اضطهاد غير المؤمنين بهذا الدين والى عصبية تضر الدولة والدين معا ويولد انقسامات وعداوات بين المواطنين. بهذا تُصبغ الدولة ككل بصبغة دينية ضيقة الأفق ويصبح "الدين-الدولة" ومؤسساته بؤرة لإرهاب الناس والتعدي على ضمائرهم وحرياتهم العامة وحتى على حياتهم.
الديمقراطية دعوة للعيش المشترك استنادا إلى مفاهيم إنسانية محددة بشكل واضح في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. علاقتنا مع الآخر يجب إخراجها من نطاق الدين الضيق، الشبيه بالعنصرية ،الرافض للآخر، وإدخالها في المجال الإنساني الرحب.