عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-04-2013, 12:37 PM
فكري ابراهيم فكري ابراهيم غير متواجد حالياً
مــٌــعلــم
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,936
معدل تقييم المستوى: 19
فكري ابراهيم is a jewel in the rough
افتراضي

زهد ابن القيم وعبادته:
إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانبًا آخر-غير ما سبق- وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه.

فإن "من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى -وبخاصة كتابه (مدارج السالكين)- يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم رحمه الله كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته، وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه -لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح- ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس".
فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم رحمه الله ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل، وفيما يلي طرفٌ مما حكاه بعض من شاهد أحواله في ذلك:
1- طول صلاته وقيامه بين يدي الله سبحانه: وطول ركوعه وسجوده: فقد وُصِفَ رحمه الله بطول الصلاة "إلى الغاية القصوى"، وكانت طريقته رحمه الله في الصلاة: أنه "يطيلها جدًا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا يَنْزِع عن ذلك رحمه الله"، وكيف يَنْزِع عن ذلك، أو يُقْلِع عنه، وقد وجد راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، والأنس بمحبوبه في طول الوقوف بين يديه سبحانه، وكثرة المناجاة له؟ وكيف يُقْلِع عن ذلك وهو يرى أن "من لم تكن قرة عينه في الصلاة، ونعيمه وسروره ولذته فيها، وحياة قلبه وانشراح صدره"، فأولى به أن يكون من السُّرَّاق في صلاتهم، الذين ينقرونها نقرًا.
2- تهجده وقيامه الليل: فقد قال عنه ابن رجب رحمه الله: "كان ذا عبادة وتهجد"، وكيف بهذا العالم الرباني يغفل عن قيام الليل، أو يتوانى في ذلك، وقد علم أنه (وَقْتُ قَسْمِ الغَنَائم)، فأسهر ليله، ووقف بين يدي مولاه والناس نيام حتى يكون يوم القيامة من الآمنين، وفي الموقف من المطمئنين؛ فإن من "سَبَّح الله ليلاً طويلاً،لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخفَّ شيء عليه"، كما يقول هو رحمه الله.
3- كثرة ابتهاله وتضرعه ودعائه: فقد وصفه ابن كثير رحمه الله بـ (كثير الابتهال)، وقد وُصِفَ أيضًا بـ "الافتقار إلى الله، والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته" بحيث لم يشاهد مثله في ذلك.
4- ملازمته رحمه الله لذكر الله واستغفاره: بحيث كان ذا (لَهَجٍ بالذكر... والإنابة والاستغفار"، ومما يذكر عنه في ذلك أيضًا: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار جدًا، وكان إذا سُئِل عن ذلك يقول: هذه غَدْوَتِي، ولو لم أَتَغَدّ هذه الغدوة سقطت قواي. وقد ذكر هو رحمه الله عن شيخه ابن تَيْمِيَّة مثل ذلك فلا مانع أن يكون هذا الفعل ثابتًا عنهما رحمهما الله، وحريّ بمثل ابن القَيِّم أن يحرص على الذكر، ويكثر منه ولا يفارقه، ويجد فيه راحة قلبه؛ وذلك أنه عرف منزلة ذكر الله وفوائده الجمة، حتى أخبر رحمه الله أن "في الذكر أكثر من مائة فائدة"، ثم ساق من هذه الفوائد نيفًا وتسعين فائدة.
5- قراءة القرآن بالتدبر والتفكر: فقد كان رحمه الله لا يفتر عن ذلك حتى في أوقاته الحرجة، ويصف تلميذه ابن رجب رحمه الله حاله في السجن، فيقول: "وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر"، ولأجل ما كان عليه في ذلك من التدبر والتفكر في كتاب الله، فإن تلميذه ابن رجب لم ير "أعرف بمعاني القرآن... منه".
نُبْل أهداف ابن القيم ونقاء آرائه:
تَقَدَّمَ أن ابن القَيِّم رحمه الله كان قد عاش في بيئة يسودها كثير من الفساد الديني والأخلاقي، وتنتشر فيها عادات اجتماعية متردية، وتروجُ فيها أفكارٌ ونِحَلٌ منحرفةٌ مع انتسابها زُورًا للإسلام، وشاء الله سبحانه وتعالى وله الحمد أن يشرح صدر ابن القَيِّم للمنهج الحق، وأن يريه الطريق المستقيم، وأن يُحَبِّبَ إلى قلبه التمسك بالكتاب والسنة دون سواهما، وكان من توفيق الله عز وجل أن هيَّأ له أستاذًا فاضلاً، وعلمًا شامخًا، وعالمًا نِحْرِيرًا مجاهدًا، وهو: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان سبقه إلى سلوك هذا السبيل، فكان له - بعد توفيق الله - خير القدوة، ونعم المرشد؛ فقد لازمه ابن القَيِّم رحمه الله منذ عودته من الديار المصرية إلى دمشق سنة (712هـ)، إلى أن توفي الشيخ رحمه الله في سنة (728هـ)1، حتى صار من أصحب الناس له، وألصقهم به ومن أخصِّ تلاميذه والْمُقَرِّبِين إليه، ولقد تَمَكَّنَت محبةُ الشيخ من قلب تلميذه ابن القَيِّم رحمه الله، فكان لا يفارقه أبدًا، حتى إنه كان محبوسًا معه في القلعة إلى أن مات الشيخ رحمه الله.

وهكذا كان لابن تَيْمِيَّة رحمه الله أثرٌ كبيرٌ؛ بل أكبر الأثر في حياة ابن القَيِّم رحمه الله: توجيهًا وتعليمًا، وتربيةً وإرشادًا؛ فقد أخذ عنه عِلمًا غزيرًا، واستفاد منه منهجًا قويمًا في حياته ودعوته (مع ما سلف له من الاشتغال والتحصيل) حتى حَمَل الراية من بعده، وسار على الدَّرْبِ نفسه، داعيًا للرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهديهما، وفتح الله عليه في ذلك الفتح المبين، فكان ولا يزال مِشْعَلَ خير ونور، هدى الله به الكثيرين إلى صراطه المستقيم.
فلعلها "سرت إليه بركة ملازمته لشيخه ابن تَيْمِيَّة في السراء والضراء، والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه" كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله.
كانت تلك إلماحة سريعة إلى أبرز العوامل التي هيأها الله سبحانه لابن القَيِّم في هذه البيئة المظلمة، فكانت أكبر عون له على الصمود في وجه تلك التحديات.
ولا بد لنا -بعد ذلك- أن نبرز الأهداف التي تَبَنَّاها ابن القَيِّم رحمه الله، وكان يسعى لتحقيقها، تلك الأهداف التي كانت محور دعوته، ولبَّ رسالته، التي عاش مجاهدًا من أجل تحقيقها، حتى لقي الله - عزوجل- على ذلك، وهذه الأهداف وإن تنوعت وتعددت، فإنها تدور في مجملها حول محور واحد وغاية عظمى، ألا وهي: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة البدعة.
يتبع
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي
بإدارة الجمالية التعليمية
دقهلية

أمين اللجنة النقابية للمعلمين
رد مع اقتباس