المحور الأول: معضلات المرحلة الانتقالية
1- أزمات الشرعية: استحقاقات المراحل الانتقالية في دول الثورات العربية
محمد عبدالله يونس
مدرس مساعد في العلوم السياسية - جامعة القاهرة
لم تسفر الثورات العربية عن تأسيس نظم سياسية تحكمها صيغ مستقرة لتداول السلطة، إذ إن حالة الضبابية التي اتسمت بها المراحل الانتقالية في كافة دول الثورات أدت إلى إعادة إنتاج أزمات الشرعية نتيجة العجز عن الوفاء بالاستحقاقات الثورية، والافتقاد لعقد اجتماعي يضبط آليات تداول السلطة وأداء الدولة لوظائفها الاقتصادية والأمنية، في خضم حراك اجتماعي احتجاجي يكشف عن تآكل سريع لشرعية النظم البديلة "المنتخبة" التي تولت مقاليد الحكم محل النظم السابقة، فيما يعرف بـ"الإحلال السلطوي".
أبعاد متعددة
تعرضت النظم الصاعدة في دول الإقليم لتآكل سريع في شرعيتها في ظل إحباط ثورة التوقعات بما يمكن تحقيقه على إثر الثورات، وتصاعد النزوع للعـنف، والحراك الاحتجاجي "الفئوي" الذي أنتجته المشكلات الاقتصادية الحادة، والفشل في طرح نموذج تنموي يحقق العدالة الاجتماعية، فضلا عن استمرار النزعة السلطوية، مع اختلاف الحدة والأبعاد الحاكمة لأزمات الشرعية، فبينما يعاني النظام السوري من انهيار كامل لأسس الشرعية؛ فإن النظامين الحاكمين في مصر وتونس يواجهان أعراض الانحدار المضطرد في الرضاء العام عن سياساتهما، ومناوأة تيارات المعارضة المدنية، في حين تواجه النظم الحاكمة في البحرين وليبيا واليمن معضلات الانقسامات المذهبية والقبلية والميليشيات المسلحة والعـنف المتصاعد بين الفصائل السياسية المختلفة، وفي هذا الصدد تتمثل أهم أبعاد أزمات الشرعية في الآتي:
1- الحراك الاحتجاجي العنيف، إذ لم تنجح النظم السياسية في الوفاء باستحقاقات الثورات العربية، وهو ما أدى إلى تفجر موجة أكثر ***ًا من الحراك الاحتجاجي؛ حيث أدى اغتيال المعارض اليساري التونسي شكري بلعيد، في 6 فبراير الجاري، إلى اندلاع احتجاجات وتنظيم عصيان مدني وحرق لمقرات حركة النهضة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، بينما لم تنقض بعد الموجات الارتدادية لذكرى ثورة 25 يناير في مصر وما تبعها من أعمال *** في مختلف محافظات الجمهورية، في حين لا تزال البحرين تشهد أعمال شغب متقطعة من جانب المنتمين لجمعية الوفاق الشيعية وقوى المعارضة الرئيسية.
2- افتقاد الأسس الدستورية، حيث لم تتمكن النظم الصاعدة من تأسيس أُطر دستورية حاكمة للتفاعلات السياسية وتداول السلطة، فعلى الرغم من تمرير الدستور المصري في ديسمبر الماضي، فإن اتساع نطاق الفئات الرافضة له يقوض من قدرته على ضبط التفاعلات السياسية في ظل ما يتضمنه من قواعد تُثير خلافات كونها تفرض قيودًا على الحريات العامة والعدالة الاجتماعية والمساواة، في حين لم تتمكن أي من دول الثورات الأخرى من صياغة دساتير في ظل الخلافات المحتدمة بين مختلف التيارات السياسية.
3- تقويض الاحتكار الشرعي للقوة، لا سيما وأن انتشار الميليشيات المسلحة يحول دون فرض القانون في مختلف دول الثورات العربية، ففي ليبيا لا تزال سطوة الميليشيات المسلحة حاكمة للمشهد السياسي، في حين يزداد الأمر تعقيدًا في اليمن، في ظل الصراع بين الميليشيات القبلية وفصائل تنظيم القاعدة من جانب، والصدامات المتقطعة بين الحوثيين وأنصار حزب التجمع الوطني للإصلاح التابع للإخوان المسلمين من جانب آخر، والتي تكشف عن افتقاد الدولة للسيطرة، في ظل انقسام القوات المسلحة اليمنية بين أنصار نجل الرئيس السابق علي عبد الله صالح واللواء محسن الأحمر، وهو وضع يصل حده الأقصى في الحالة السورية في إطار حرب أهلية كاملة بين الجيش النظامي وفصائل الجيش السوري الحر.
4- فقدان شرعية الإنجاز، بسبب فشل مختلف الحكومات في دول الثورات في إنجاز أي من الاستحقاقات الثورية، في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية، واحتدام مشكلات البطالة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض حجم الاستثمارات.
أسباب مختلفة
ترتبط أزمات الشرعية السياسية في دول الثورات العربية بعدد من الأسباب التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الصراع السلطوي، فقد انتقصت المواجهة المستحكمة بين جماعة الإخوان المسلمين وقوى المعارضة في مصر، من شرعية النظام المستمدة من الامتناع عن استخدام القوة في مواجهة المتظاهرين، بينما أدى الانقسام بين قوى المعارضة وحركة النهضة الممثلة لجماعة الإخوان المسلمين في تونس إلى تفكك الائتلاف الحكومي، وهو ما أثر سلبيًّا على إدارة المرحلة الانتقالية.
2- التصدع المجتمعي، حيث باتت الانقسامات الأولية حاكمة للتفاعلات السياسية، ففي سوريا أدت الحرب الأهلية إلى تفكك المجتمع تحت وطأة الصراع بين الأقلية العلوية الحاكمة والجيش السوري الحر الممثل للفصائل السنية، والأكراد الذين نجحوا في السيطرة على مناطق تمركزهم بعد انسحاب قوات النظام السوري، في حين تسيطر الانقسامات الجهوية على الصراع السياسي في اليمن، في ظل المطالب الانفصالية لفصائل الحراك الجنوبي والحوثيين في صعدة، والانقسامات القبلية بين مؤيدي علي عبد الله صالح والداعمين لمحسن الأحمر.
3- الانهيار المؤسسي، إذ قوضت تداعيات الثورات العربية من تماسك مؤسسات الدولة لا سيما المؤسسات الأمنية، حيث تعرضت أجهزة الشرطة في مصر وتونس لتصدع لم تتمكن حتى الآن من تجاوز تبعاته في ظل تعرضها للتسييس واستهدافها من جانب الفصائل الثورية، بينما ترتب على انخراط المؤسسة العسكرية في الثورات والاحتجاجات إشكاليات طالت تماسكها على غرار ما حدث في اليمن، ويحدث الآن بشكل أقوى في سوريا.
4- الاختراق الخارجي، فقد أضعف التدخل الإيراني لدعم الحوثيين والحركات الانفصالية في اليمن، من قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة المرحلة الانتقالية، بينما أدت التجاذبات بين المحاور الإقليمية إلى احتدام الصراع في سوريا، في ظل تناقض المصالح بين محور إيران والعراق وحزب الله الذي يدعم النظام السوري من جانب، ومحور تركيا والسعودية وقطر الذي يقدم مساعدات لفصائل الجيش السوري الحر من جانب آخر.
آليات الاحتواء
لم تقدم دول الثورات العربية نموذجًا مثاليًّا في احتواء أزمات الشرعية، في ظل بيئة داخلية وإقليمية ضاغطة تستنزف قدراتها، فضلا عن خصائص التيارات السياسية المتصدرة للمشهد السياسي التي يغلب على توجهاتها الانغلاق وجمود المواقف بما يعرقل التوافق السياسي، ومن ثم لم تخرج آليات مواجهة أزمات الشرعية في تلك الدول عن توظيف الأدوات الأمنية في قمع المعارضة، وتبني خطاب التخوين والإقصاء للدفاع عن شرعية استحواذها على السلطة، فضلا عن الارتكان لمصادر الشرعية التقليدية الدينية، بهدف حشد الجماهير في مواجهة المعارضة المدنية التي تواجه رموزها حملات تشكيك وتشويه، وإعادة بناء شبكات المصالح بين البيروقراطية ورجال الأعمال وشاغلي السلطة، التي أبقت على احتكار النظم السابقة للسلطة لفترات طويلة، وهو ما يطرح مسارات متعددة يمكن أن تتجه إليها أزمات الشرعية: أولها، انهيار كامل للشرعية مصحوبًا بثورات جديدة على النظم الحاكمة. وثانيها، استمرار تآكل الشرعية دون سقوط النظم الحالية. وثالثها، صياغة معادلات جديدة لشرعية تبادل المنافع والاعتماد على الشرعية التقليدية. ورابعها، استعادة شرعية الإنجاز لتملأ فراغ شرعية التوافق الديمقراطي.
آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 26-04-2013 الساعة 08:54 PM
|