المحور الأول: معضلات المرحلة الانتقالية
7- تناقضات هيكلية: قضايا وإشكاليات الحوار الوطني بعد ثورات الربيع العربي
محمد عبدالله يونس
لا يمكن اعتبار الحوار الوطني الذي تم تنظيمه في عدد من دول الإقليم في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي آلية فعالة لتحقيق التوافق الوطني وتسوية القضايا الخلافية، تحت وطأة التحديات المتصاعدة والتناقضات الهيكلية بين رؤى الأطراف الرئيسية، بما يجعل مآلات هذا الحوار تتراوح بين الانهيار قبل البداية نتيجة مقاطعة أطراف رئيسية، أو الإخفاق في تسوية القضايا الخلافية بصورة متوازنة ومستديمة، في ظل اتساع نطاق التباينات حول كيفية تحقيق ذلك، ورفض مختلف الأطراف تقديم تنازلات للوصول إلى التوافق المستعصي على الحدوث.
ثنائيات جامدة
تكشف مراجعة جولات الحوار الوطني في دول الإقليم عن تناقضات واضحة في توجهات ومصالح المشاركين تجاه مختلف القضايا، نتيجة للثنائيات الجامدة والصراعات الحاكمة للمشهد السياسي في هذه الدول، وتبدو تلك التناقضات واضحةً في خريطة جامعة لمسارات الحوار الوطني تتمثل معالمها في:
1-الصدام بين جبهة الإنقاذ الوطني والتيارات الإسلامية في مصر،والذي جعل جولات الحوار الوطني لا تشمل مشاركين من تيارات المعارضة الوطنية المنضوية في إطار الجبهة رغم تعرض الحوار لقضايا حيوية من قبيل تنظيم الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتعديلات المقترحة على الدستور الذي تطعن المعارضة في إجراءات الاستفتاء عليه.
2-التناقضات الهيكلية الحاكمة للحوار الوطني اللبناني،لا سيما بعد رفض قوى "14 آذار" المشاركة في الحوار قبيل استقالة الحكومة الحالية التي تسيطر عليها قوى "8 آذار"، تمهيدًا للتوافق حول تنظيم الانتخابات النيابية إلى جانب القضايا الخلافية الأخرى.
3- رفض الجبهة الوطنية للإصلاح في الأردن المشاركة في الحوار الوطني الذي دعا إليه الملك عبد الله الثاني قُبيل تعديل نظام الانتخابات ومعالجة القضايا الخلافية،وعلى رأسها الانتخابات المقبلة التي سيتم إجراؤها رغم تمسك المعارضة بموقفها الرافض للمشاركة فيها.
4- تمسك الحراك الجنوبي بمنح جنوب اليمن حق تقرير المصير كشرط سابق على الانضمام للحوار الوطني،الذي يواجه تحديات عديدة بسبب الصراع المستحكم بين تكتل اللقاء المشترك الذي يضم أحزابا معارضة للنظام اليمني السابق بقيادة حزبي التجمع اليمني للإصلاح الممثل لجماعة الإخوان المسلمين والحزب الاشتراكي، وتكتل المؤتمر الشعبي العام بقيادة حزب المؤتمر الشعبي السابق والرئيس السابق علي عبد الله صالح.
قضايا مختلفة
يكمن الدافع الرئيسي خلف تنظيم الحوار الوطني في غالبية دول الإقليم، في رأب الصدع بين السلطة والمعارضة، أو التوافق على ترتيبات انتقال السلطة فيما بعد المرحلة الانتقالية لا سيما في اليمن، بيد أن مختلف القضايا المطروحة للحوار تثير جدلا واسع النطاق بما يجعل حسمها عبر الحوار الوطني تحديًا جوهريًّا، ومن أبرز تلك القضايا:
1-التنافسية الانتخابية،التي تضعها المعارضة على رأس أولوياتها باعتبارها الآلية الأهم لتداول السلطة، فالجبهة الوطنية للإنقاذ في مصر تصر على تغليب نظام القوائم المفتوحة على النظام الفردي بينما ترجح التيارات الإسلامية المزج بينهما، والمعارضة الأردنية تتجه لمقاطعة الانتخابات بسبب تخصيص 27 مقعدًا فقط لنظام القوائم الحزبية في مقابل 123 مقعدًا للنظام الفردي ولا تقبل إلا بالتقسيم المتساوي بين النظامين لتعزيز التنافسية الحزبية.
2- التعديلات الدستورية،حيث طرحت اقتراحات عديدة لتعديل الدستور في مصر، لاستيعاب المعارضة ومطالبها، باعتبار أن التعديلات التي يتم التوافق عليها سيتم إقرارها عقب انتخاب مجلس النواب القادم، إلا أن المعارضة لا تقبل بهذه الآلية لعدم وجود ضمانات واضحة لتنفيذ ما يتوصل إليه الحوار من نتائج ولاتساع نطاق اعتراضاتها على الدستور.
3-المطالب الانفصالية،إذ تغلب هذه المطالب على مسار الحوار الوطني في اليمن، لا سيما من جانب الحراك الجنوبي والحوثيين الذين يتمسكون بالإقرار بتلك المطالب كشرط مبدئي للمشاركة في الحوار، وهو ما يتضح من تصريحات قيادات جنوبية مثل نائب الرئيس السابق علي سالم البيض، وحسن باعوم رئيس المجلس الأعلى لحراك الجنوب.
4- العلاقات المدنية العسكرية،والتي مثلت أحد أهم محاور الحوار الوطني في مختلف دول الإقليم، ففي لبنان يثير تفرد "حزب الله" بامتلاك قدرات عسكرية وتسليحية خارج نطاق المؤسسة العسكرية جدلا واسع النطاق، لا سيما في ظل مخاوف قوى "14 آذار" من استخدام الحزب لهذه القدرات العسكرية في حسم الصراعات السياسية مع خصومه في الداخل، بينما تبدو الأوضاع في اليمن أكثر تعقيدًا في ظل الانقسام داخل القوات المسلحة بين قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة بقيادة أحمد علي عبد الله صالح، وقوات الفرقة الأولى المدرعة بقيادة اللواء علي محسن الأحمر، وانتشار الميليشيات المسلحة التابعة للقبائل.
إشكاليات متعددة
يتسم الحوار الوطني في الإقليم إجمالا باختلالات هيكلية تحول دون تحقيق أهدافه؛ إذ يعترض إجراء ذلك الحوار التناقضات المستحكمة بين القوى السياسية، والانقسامات بين التيارات المحافظة والراديكالية من جهة والتيارات الدينية والمدنية من جهة ثانية، والصراع بين السلطة والمعارضة من جهة ثالثة. وتتمثل الإشكالية الأولى للحوار الوطني في مقاطعة عدد من القوى السياسية الرئيسية، فجبهة الإنقاذ الوطني في مصر تشترط أن يكون الحوار الوطني معلنًا ونتائجه نافذة بذاتها كي تشارك في الحوار، فيما تطالب الجبهة الوطنية للإصلاح في الأردن بوقف إجراءات الانتخابات النيابية المقبلة قبل إجراء الحوار، بينما تدعو قوى "14 آذار" في لبنان إلى إقالة الحكومة الحالية قبيل المشاركة في الحوار، في حين تتمسك قوى الحراك الجنوبي في اليمن بالإقرار بحق الجنوب في تقرير المصير كي تشارك في الحوار.
وتتعلق الإشكالية الثانية بافتقاد الحوار للإجراءات التي تكفل له تحقيق نتائجه المرجوة، ففي حين يواجه الحوار الوطني في مصر حالة من الغموض خصوصًا فيما يتصل بآليات تفعيل نتائجه، فقد عرقلت الخلافات حول تمثيل المشاركين في الحوار الوطني في اليمن إجراؤه رغم كونه أحد استحقاقات المبادرة الخليجية، بينما لم يتجاوز الحوار الوطني في الأردن مرحلة المبادرة الملكية إلى إطار تنظيمي. أما الإشكالية الثالثة فترتبط بالتدخلات الخارجية في مسار الحوار الوطني، إذ أدت انعكاسات الاستقطاب الإقليمي وتعارض مصالح الأطراف الإقليمية لا سيما بين إيران من جانب والمملكة العربية السعودية من جانب آخر، إلى تعقيد مسار الحوار الوطني اللبناني، بينما تسبب الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن وبعض فصائل الحراك الجنوبي في المناوأة المتصاعدة للحوار الوطني.