المسئولية الغائبة:
تحديات الإعلام "الساخر" في مرحلة ما بعد الثورات العربية
إبراهيم غالي
رغم أن الثورات العربية فتحت الكثير من الأبواب التي كانت موصدة في وجه الإعلام، إلا أن الإعلام "الساخر" ما زال غير مرحبٍ به لدى حكومات تلك الثورات، حيث تعرض في تونس، خلال شهر أغسطس الماضي، للمصادرة واعتقال القائمين عليه على نحو ما حدث بشأن برنامج "اللوجيك السياسي"، كما يتعرض لمواقف مشابهة في مصر على غرار ما يحدث مع برنامج "البرنامج"، حيث بدأت التحقيقات مع الإعلامي باسم يوسف بتهمة إهانة الرئيس وازدراء الدين الإسلامي. وفي الحقيقة فإن موجة التضييق الحكومي على الإعلام في كل من مصر وتونس لا تقتصر على الإعلام "الساخر"، بل إنها تمتد لتطال الإعلام بصفة عامة، حيث تتزايد القضايا المرفوعة ضد الإعلاميين والصحفيين في كلتا الدولتين.
وفي مصر ثمة نموذجان متناقضان يؤكدان انعكاس حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي تشهدها الساحة السياسية في الوقت الحالي على العلاقة بين السلطة الحاكمة ووسائل الإعلام التي تعارض جماعة الإخوان المسلمين، ويوضحان كذلك غياب الفوارق والحدود بين رؤية السلطة للحرية الإعلامية التي تحاول أن تفرض عليها مزيدًا من القيود، وبين إعلام حر يحاول أن يتخلص من تلك القيود بصرف النظر عما قد يحدث من حالة من الانفلات وعدم مراعاة القواعد المهنية والمسئولية المجتمعية.
النموذج الأول، يبدو جليًّا في تصريحات الرئيس محمد مرسي الأسبوع الماضي، والتي أشارت ضمنيًّا إلى اتهام مؤسسات إعلامية وإعلاميين بالترويج للأكاذيب والنيل من شخصه، وهو ما تصادف مع قيام أنصار لتيار الإسلام السياسي بالاعتصام أمام مدينة الإنتاج الإعلامي في 24 مارس الفائت، ومحاصرة أبواب المدينة، ومنع بعض العاملين من الدخول أو الخروج والاعتداء على بعض الإعلاميين بدنيًّا ولفظيًّا، في خروج واضح عن حالة التظاهر السلمي التي تجاوزت حق الاحتجاج المشروع لتنال من حقوق الآخرين. ويتمثل النموذج الثاني فيما يحمله تحقيق النيابة العامة مع الإعلامي باسم يوسف من تناقضات واضحة لتغييب الفارق بين حرية الرأي والتعبير لوسيلة إعلامية يشاهدها الملايين، والتزام هذه الوسيلة بالضوابط القانونية والأخلاقية.
ترصد متبادل
هذه المشكلة تحديدًا تثبت وجود حالة من الترصد المتبادل بين مؤيدي رئيس الجمهورية الذين يدفعون باتجاه وقف بث هذا البرنامج الذي يرونه مؤثرًا، إلى حد كبير، على صورة وشعبية الرئيس والتيار الإسلامي بوجه عام، وبين معارضي الرئيس الذين يقفون إلى جانب كافة وسائل الإعلام التي لا تنتقد الرئيس فقط وإنما تسخر من أدائه العام ولو باستخدام عبارات نابية لم تعتد عليها أسماع المشاهد المصري.
وتكمن المشكلة الرئيسية التي تواجه حرية الإعلام في العالم العربي، وخاصة في دول الربيع العربي، في أن السلطات الحاكمة لم تستوعب ليس فقط حجم التغيرات في مجال التعبير والرأي الذي أتاحه بداية عصر الفضائيات المفتوحة، والذي حد كثيرًا من سيطرة الدولة على توجيه الإعلام واحتكار وسائله، وإنما لم تقم كذلك بصياغة تشريعات تتلاءم وبداية مرحلة جديدة من الحرية والمشاركة السياسية والمجتمعية، فاستمرت في فرض القيود السابقة نفسها على حرية الرأي، وأضافت إليها معوقات جديدة. ففي مصر وتونس، على سبيل المثال، تم الإبقاء على استمرار سيطرة الحكومة في فرض تراخيص البث دون تأسيس جهة رقابية مستقلة بذلك، وعلى القوانين المتعلقة بالتشهير الجنائي مثل المادة (98) من قانون العقوبات المصري التي تقضي بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز 5 سنوات أو بالغرامة ضد من يحاكم بتهمة ""ازدراء الأديان"، والمادة (179) التي تنص على معاقبة كل من أهان رئيس الجمهورية بالحبس.
وعلى الجانب الآخر، أي ما يختص بالإعلاميين، فإن ثمة اتجاهات عديدة ترى أن معظم القنوات الخاصة تعتمد في الممارسة على إعمال نظرية "الحرية الإعلامية" المتجاوزة لأية ضوابط، ويسري ذلك على القنوات التي يمكن وصفها بـ"الدينية" والتي تسمح ببث فتاوى وأقاويل يفترض أنها تصدر عن متخصصين، لكنها تخرج عن نطاق التسامح الديني لتبث الكراهية ضد كافة المخالفين، وعلى القنوات "غير الدينية" التي انتقل معظمها من النقد إلى التجريح والسخرية والاستهزاء، فكلاهما، وفقًا لهذه الاتجاهات، يبدو أنه يرفض الرقابة والمسئولية ويسعى لتحقيق أقصى قدر من الربح المادي وتوجيه برامجه نحو غاية واحدة تفرض رؤيته هو ولا تعرض وجهة نظر الآخرين.
المسئولية الغائبة
وتبعًا لذلك، فإن الطرفين يغفلان، عن عمدٍ، أن ثمة ضوابط لحرية الإعلام، منها ضوابط قانونية وأخرى مجتمعية وثالثة دينية ورابعة ذاتية، وكلها تتعلق بالنظام والمصلحة العامة والأخلاق، كما اتضح في المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي نصت على أن "يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي"، ويعني ذلك أن المسئولية المجتمعية والأخلاقية لا تمنح الإعلامي الحق المطلق في قول ما يشاء وقتما يشاء وبأي ألفاظ وتعبيرات، وإنما التقيد بمعايير المهنة والالتزامات الذاتية تجاه المجتمع.
ومما لا شك فيه، أن المسئولية الأكبر في تهيئة بيئة إعلامية أفضل تقع الآن على عاتق الإعلاميين في جانب كشف الحقائق وعرضها بحرفية عالية وبالتزام أخلاقي حتى تصل الرسالة الإعلامية، سواء من المؤيدين أو المعارضين، بشكل موضوعي يقود لتفعيل مساهمة الإعلام في أن يكون ركيزة لمجتمع تعددي أكثر انفتاحًا وحرية. ويقتضي ذلك توافق الإعلاميين، من شتى الاتجاهات، على ضرورة وضع قوانين ومعايير مهنية وأخلاقية تعيد التقيد الذاتي بالالتزام وبالضوابط المعروفة، وتحديد الحالات التي تقتضي اللجوء إلى القضاء بشكل واضح لا يحتمل التأويل والغموض، وفتح نقاش جدي حول معايير انضمام الأشخاص إلى منظومة العمل الإعلامي التي باتت متاحة للجميع دون ضوابط واضحة. أما السلطة الحاكمة فعليها مراجعة القوانين والتشريعات المقيدة لحرية الإعلام وتضييق الأحوال التي يتم فيها إحالة الإعلامي إلى التحقيق أو محاكمته، حتى لا تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورات العربية.
آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 03-05-2013 الساعة 09:29 AM
|