مكرم عبيد باشا فارس الوحدة الوطنية
الحاجة الى بلورة الهوية المصرية الخالصة فى هذه الفترة التى تمر بها مصر يستدعى منا استحضار النموذج الأبرز للقبطى الأصيل الذى أثر فى الحياة الفكرية والسياسية وأثراها كثيراً، وكان له من المواقف الوطنية المميزة ما يجعلها تفوق الكثير من أقرانه المسلمين. مكرم عبيد. ليس مجرد اسم شارع فى قلب مدينة نصر، بل هو الزعيم الذى اشتهر باسم مكرم عبيد رجل السياسة العظيم أخذ لقب باشا وحذف الأسم الأجنبى وليم بسبب موقفه المناهض للاستعمار البريطانى، عاش حياته واضعا الأهداف الوطنية الكبرى نصب عينيه، فقاد النضال الوطنى ضد الاحتلال البريطانى جنبا لجنب مع رفيق الكفاح الوطنى الزعيم مصطفى النحاس، وضحّى من أجل هذه الأهداف بمصالحه الشخصية، فاستحق عن جدارة حُب الشعب المصرى الذى لقبه بـالمجاهد الكبير وابن سعد، وتبقى سيرته العطرة دائماُ تفوح فى ضمير ووجدان الأمة.
مكرم عبيد. وزير مالية مصر الأسبق وأبرز خطيب سياسى فى العصر الحديث، والمحامى الضليع الذى دافع عن قضايا الشعب المصرى بالفصاحة والبلاغة والنزاهة والصلابة فى جميع مواقفه السياسية، كان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم وهو صاحب المقولة الشهيرة نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارا. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين.
مكرم عبيد باشا أحد أكبر المناضلين والمفكرين المصريين عبر ثلاثة عقود متصلة، والذين عاصروه عن قرب أدركوا بحق أنهم أمام أحد عمالقة الفكر السياسى، بالإضافة الى امتلاكه المقدرة على قراءة وتحليل القضايا الاجتماعية داخل مصر بعمق وفهم، هو نموذج حقيقي يحتذى به فى تجسيد الوطنية.
نشأته:
ولد مكرم عبيد فى الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1889 فى محافظة قنا بصعيد مصر، لعائلة من أشهر العائلات القبطية وأثراها آنذاك، والتحق بالمدرسة الأمريكية فى أسيوط، وأنفت روحه التعصب الدينى وكان أقرب أصدقائه من المسلمين منهم سامى بك نور ابن المحامى الكبير محمد بك نور الذى تدرب مكرم عبيد فى مكتبه، وسافر مكرم الى انجلترا ليدرس فى جامعة اكسفورد وحصل على درجة امتياز فى القانون عام 1908، واستكمل دراسته القانونية فى ليون بفرنسا وحصل على الدكتوراة عام 1912 عاد بعدها الى مصر، وكان لا يزال دون الثلاثين من عمره حين اعترض على المشروع القضائى البريطانى الذى كانت ستصبح مصر بموجبه كاحدى مستعمرات الهند، واستعان الزعيم سعد زغلول فى رفضه للمشروع البريطانى ذاك بمذكرة الشاب مكرم عبيد.
أبن سعد:
كان مكرم عبيد مقربا من الزعيم سعد زغلول باشا وعندما أنذر الانجليز سعد باشا بايقاف نشاطه أوالنفى (7 ديسمبر 1921) رفض الإنذار
مصطفي النحاس وويصا واصف وسينوت حنا وواصف غالى ومكرم عبيد، وعندما توثقت علاقته بالزعيم سعد زغلول أصبح الناطق بلسانه الى حد أنه عرف بـابن سعد، وفى احدى خطبه قال مكرم عبيد
ليس فى الأمة من يمكنه أن يقول أنا الأمة الا سعد، ومهما يكن من الأمر فسعد هو سعد فاوض أو لم يفاوض، وفى ذكرى الزعيم سعد زغلول قال
إن لم يتخذ أى منا من ذكراه عبرة فيجاهد فى سبيل وطنه كان هو الحى الميت وحق لى أن أقول: أيها الميت الحى. أنت سعد!
أيها الحى الميت. أنت عبد!
فاذا لم يتح لك أيها الوطنى أن تكون فى خلودك سعد، فبربك لا تكن فى وجودك عبدا!، ولن نقبل نحن أبناء الوادى العبودية مقنعة أو الحرية مجزأة، بعد أن علمتنا الثورة والخبرة المرة أن الحرية المغلولة ما هى الا العبودية المعسولة، فإلى الأمام. الى الأمام. تلك كانت ولا تزال هى كلمة الختام.
الوظائف التى تقلدها:
وعُين مكرم عبيد سكرتيرا لجريدة الوقائع المصرية بوزارة الحقانية فى عام 1912، كما اختير سكرتيرا خاصا للمستشار القانونى الانجليزى خلال مدة الحرب العالمية الأولى، ولكنه لم يبق كثيرا فى هذا المنصب حيث استغنى عنه بسبب كتابته مذكرة معارضة للمستشار الانجليزى ايموس شارحا فيها صعوبة التوفيق بين منصبه الحكومى وشعوره الوطنى، وأبهرت تلك المذكرة المستشار البريطانى، وتضمنت مطالب الأمة المصرية وحقوقها ضد الاحتلال، ثم عُين بعد ذلك أستاذا بمدرسة الحقوق لعامين كاملين، وفى عام 1919 انضم الى حزب الوفد وعمل فى مجال الترجمة والدعاية فى الخارج ضد الاحتلال الانجليزى وكان تحركاته نشطة فى انجلترا وفرنسا وألمانيا حتى إن الجريدة الناطقة بلسان حزب الوفد أطلقت عليه لقب الخطيب المفوه، وفى 1928 عندما شكل النحاس وزارته بعد وفاة سعد باشا عين مكرم وزيرا للمواصلات، وأصبح سكرتيرا عاما للوفد حتى عام 1942 فكان من أبرز أعضاء الحزب وأكثرهم شعبية، ثم عين مكرم عبيد وزيرا للمالية ومنح لقب الباشوية، ومع انشقاقه عن الوفد عام 1942 واختلاف مكرم عبيد مع مصطفى النحاس ألف الكتلة الوفدية ورأسها، وأصدر لها جريدة خاصة الكتلة وشارك فى الوزارات التى تشكلت برئاسة أحمد ماهر والنقراشى عام 1946، كما عمل بالمحاماة ونذر وقته كله للدفاع عن المقبوض عليهم فى تهم سياسية، ومازالت أصداء مرافعاته تتردد فى تاريخ المحاماة فى مصر، حيث كان يعتمد فى دفاعه على التحليل المنطقى لدوافع الجريمة، واختير نقيبا للمحامين لثلاث مرات، وتولى الدفاع عن عباس العقاد حين اتهم بسب الذات الملكية.
الكتاب الأسود:
وأتاح عمل مكرم عبيد كوزير للمالية فى وزارة الوفد له رصد الكثير من التصرفات المدعمة بالوثائق ودونها فى عريضة بأحوال البلد رفعها إلى الملك وعرفت هذه العريضة لاحقا بالكتاب الأسود الذى روى فيه مشاهداته فى حزب الوفد، وما اعتبره وقتها من الفضائح والمصائب، وقدمها كاستجواب لمجلس النواب ظل يعرضه لمدة ثلاثة أيام، وتقدم حسن ياسين بإقتراح لإسقاط عضوية مكرم باشا من مجلس النواب حيث قال إن هذا الرجل الذى كان سكرتيراً للوفد وصديقاً لمصطفى النحاس وابنا لسعد زغلول لم يعد جديراً بشرف النيابة، وتم التصويت فى الجلسة نفسها، بالرغم من أن فكرى أباظة طلب إحالة الموضوع للجنة الشئون الداخلية فى المجلس، رفض طلبه، وفصل مكرم عبيد من مجلس النواب، وأغلق باب المناقشة فى الاستجواب، وبعد عدة أسابيع أصدر مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء، أمراً عسكرياً باعتقال مكرم عبيد باشا، وبالفعل تم اعتقاله بمقتضى الأحكام العرفية وأودع فى السجن.
مفكر ليبرالى:
ويعتبرمكرم عبيد صاحب فكرة النقابات العمالية وتكوينها، وأول من وضع فكرة الحد الأدنى لأجور العمال فى مصر، وتوازن الأجور مع الأسعار، وعمل على توفير العلاج الطبى والتأمين الاجتماعى للعمال، وترتب على ذلك إنصاف العمال والموظفين والطبقات الكادحة، وواضع نظام التسليف العقارى الوطنى، كما انه صاحب الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية للدخل، وكان يقرن معنى الوطنية بتمصير ملكية الاراضى الزراعية ونزعها من الاجانب.
فكان مكرم عبيد شخصية متميزة يتعامل بوصفه المصرى دون غيره، وجسد أفكاره الوطنية فى مقولات اكتسبت زخما تاريخيا ويرددها المصريون فى اوقات الشدة التى تطل فيها أشباح الفتنة برءوسها مثل إن مصر ليس وطنا نعيش فيه بل وطنا يعيش فينا، ونحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارا. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين.
وقبل حوالى ستين عاما اقترح مكرم عبيد عدة مبادئ أساسية يقوم عليها حكم البلاد من بينها الغاء كل القيود على الحريات الأولية، كحرية الرأى والصحافة والاجتماع وذكر القيد الوارد على الحريات فى دستور 1930
الا اذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعى ووصفه بالعبارة المطاطة التى تفسح لأى حاكم مستبد المجال للعبث بالحريات المقدسة، وكذلك أوجب إلغاء القيد على حرية الصحافة بنفس الدستور فى عبارة
فى حدود القانون التى وردت بالمادة 15 لأن القانون قد لا يكون فى حدود الدستور!
وتحدث عن وجوب الغاء الحبس الاحتياطى فى جرائم الرأى، وحظر اقالة الوزارة الا اذا سحب البرلمان الثقة منها، وحظر إعلان الأحكام العرفية فلا يجوز اعلانها الا اذا اشتبكت البلاد فى حرب فعلية داخل حدودها على أن يحاط هذا الاعلان بالضمانات الدستورية والنيابية الواجبة، وعلى ألا تعلن الأحكام العرفية لمجرد قيام أسباب خطيرة يخشى معها اختلال الأمن لأن مثل هذه الخشية قد تسمح بالعبث فى التفسير والتأويل.
مكرم وسرجيوس:
اذا كان الحال يدعو لتضحية المليون قبطى في سبيل حرية سائر المصريين. فإن التضحية واجبة، وثمنها غير ضائع تأثر مكرم عبيد حين سمع هذه المقولة من القس سرجيوس وما قاله أيضا فى ميدان الأوبرا وسط الجماهير المتزاحمة إذا كان الإنجليز يعللون بقاءهم في مصر لحماية الأقباط. فليمت الأقباط وليعش المسلمون أحراراً في بلادهم كلمات قالها القس سرجيوس المصرى العظيم صاحب شعار يحيا الهلال مع الصليب الذى عاش فى الأزهر لمدة ثلاثة شهور كاملة وارتقى المنبر بصحبة الشيخ القاياتى معلناً أنه مصرى أولاً ومصرى ثانياً ومصرى ثالثا، وأن الوطن لا يعرف مسلماً ولا قبطياً بل مجاهدون فقط، من دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء مطالبا بالكفاح ضد الإنجليز، ومنحه سعد باشا زغلول لقب خطيب الثورة - ثورة 1919.
سر الحياة:
وتناولت الدكتورة منى مكرم عبيد فى كتابها كلمات ومواقف رسالة لمكرم عبيد من منفاه حينما كان مع سعد زغلول وزملائه فى جزيرة سيشل أرسلها الى خطيبته الآنسة عايدة، يكتب عن الدسيسة التى كان يقوم بها المستعمر الانجليزى للتفريق بين المسلمين والأقباط يقولون أقباط ومسلمون. كلا بل هم مصريون ومصريون وآباء وأمهات وبنون، أو قولوا هم أخوة لأنهم بدين مصر مؤمنون، أو أشقاء لأن أمهم مصر وأباهم سعد زغلول. قولوا لهم يا سادتى: عبثا تحاولون فصم وحدتنا، فقد جمعتنا دماء أبنائنا التى تجرى فى عروقنا، ودماء أبنائنا التى جرت فى شوارعنا. عبثا يذكروننا بانقسام مضى فقد غسلناه بدموعنا. عبثا يقولون هم اقباط ومسلمون فى وفدهم أو برلمانهم، فقد كنا ولا نزال مصريين فى سجوننا. عبثا يفرقون بين آمالنا فقد اتحدت آلامنا، عبثا والله كل العبث، فقد اكتشفنا سر الحياة، وما اتحادنا الا اتحاد قلوبنا ومشاعرنا، ولن يفصلها فاصل بعد أن جمعها الواحد القهار
فلسفة الصوم وحكمته
وفى تهنئته للمسلمين بعيد الفطر المبارك يقول. أهنئهم لا لأنهم أفطروا، بل لأنهم صاموا. ذلك هو المعنى الأسمى من هذا العيد، وعندى أن الحكمة الأولى من الصوم، ليست أن يصوم الانسان لكى يعود فيفطر، بل إن يفطر لكى يعود فيصوم. وذلك لأن الصوم كما شرعته الأديان، إن هو الا الرحمة المتجسدة المتجددة، واذا كان الله قد أراد بالصوم أن نمتنع من أن نأكل فلانه أراد أن نحس فى أجسادنا وفى أرواحنا الرحمة نحو الجائع الذى منع من أن يأكل، أو قل إن الله أراد أن تصبح الرحمة فينا سجية، لا هوية ولا مزية، وفضيلة لا فضلا ولا تفضيلا.
لهذا وجب أن يتكرر الصوم، مادام أن هناك فقيرا حرم قوت اليوم، ووجب أن تتكرر الرحمة، لتتكرر النعمة للفقير وللغنى على السواء، وما من شك أن أجر الصوم أوفى وأعظم لمن تذوق لذة الافطار ثم صام، وتنعم بالعزة ثم ارتضى لنفسه أن يضام. ذلك لأن كثيرا من الناس اذا ما نعموا بلذائذ الحياة الدنيا شق عليهم أن يصوموا عنها، أو يحرموا منها، بل إن بعضهم قد يصوم قليلا أو طويلا، فاذا ما أفطر وذاق مذاق الثروة أو الجاه أو السلطان، فبعدا للصوم وبعدا للفاقه والحرمان!
ذلك خطر الافطار على الفاطرين، ولو أنه فى ذاته يزيد من أجر الصيام للصائمين.
رحيل الفارس
وفى 5 يونيو 1961 يرحل الزعيم مكرم عبيد فارس الوحدة الوطنية الذى تتجسد حاجتنا اليه الآن، وحاجة هذا الوطن الى تلك الروح المصرية التى أشرقت علينا مع ثورة 1919 التى بلورت الهوية المصرية دون تصنيف أو انقسام أو طائفية، ونيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر شارك أنور السادات فى تأبينه بالكنيسة المرقسية بالأزبكية مشيدا بالنضال الوطنى لمكرم عبيد من أجل الاستقلال.
مكرم فى عزاء الإمام الشهيد:
مكرم عبيد هو الرجل الوحيد الذى شيع جنازة الشيخ الشهيد حسن البنا بجانب والده بعد أن منع البوليس السياسى آنذاك الرجال من المشاركة في الجنازة.
يقول مكرم عبيد الاخوان والكتلة الوفدية كان تبادلتا الزيارة، وكان لى الحظ أن يزورنى فضيلة الشيخ حسن البنا - رحمه الله - فى منزلى ودار حديث طويل تبادلنا فيه المشاعر الشخصية والوطنية، وكنت آراه فى حديثه أبعد ما يكون عن الشكليات، مما جعلنى أعتقد أنه رجل قل مثيله بيننا فى التعمق تفكيرا والتنزه ضميرا.
ولقد زرته - رحمه الله - إثر موته فى منزله، فكانت زيارة لن أنسى - ما حييت - أثرها الفاجع والدامع، ولقد هالنى أن أجد قوة من البوليس تحاصر الشارع الذى به منزل الفقيد، ولولا أن ضابط البوليس عرفنى فسمح لى بالمرور لما تيسر لى أن أؤدى واجب العزاء.
|