{ 43 - 44 }
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
ينكر تعالى، على من اتخذ من دونه شفعاء يتعلق بهم ويسألهم ويعبدهم. { قُلْ } لهم - مبينا جهلهم، وأنها لا تستحق شيئا من العبادة-: { أَوَلَوْ كَانُوا } أي: من اتخذتم من الشفعاء
{ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا } أي: لا مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بل وليس لهم عقل، يستحقون أن يمدحوا به، لأنها جمادات من أحجار وأشجار وصور وأموات،.فهل يقال: إن لمن اتخذها عقلا؟ أم هو من أضل الناس وأجهلهم وأعظمهم ظلما؟.
{ قُلْ } لهم: { لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } لأن الأمر كله للّه.وكل شفيع فهو يخافه، ولا يقدر أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا أراد رحمة عبده، أذن للشفيع الكريم عنده أن يشفع، رحمة بالاثنين. ثم قرر أن الشفاعة كلها له بقوله { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: جميع ما فيهما من الذوات والأفعال والصفات. فالواجب أن تطلب الشفاعة ممن يملكها، وتخلص له العبادة. { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازي المخلص له بالثواب الجزيل، ومن أشرك به بالعذاب الوبيل.
{ 45 - 46 }
{ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
يذكر تعالى حالة المشركين، وما الذي اقتضاه شركهم أنهم { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } توحيدا له، وأمر بإخلاص الدين له، وترك ما يعبد من دونه، أنهم يشمئزون وينفرون، ويكرهون ذلك أشد الكراهة.
{ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد، ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحها، { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } بذلك، فرحا بذكر معبوداتهم، ولكون الشرك موافقا لأهوائهم، وهذه الحال أشر الحالات وأشنعها، ولكن موعدهم يوم الجزاء. فهناك يؤخذ الحق منهم، وينظر: هل تنفعهم آلهتهم التي كانوا يدعون من دون اللّه شيئا؟.
ولهذا قال { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: خالقهما ومدبرهما. { عَالِمَ الْغَيْبِ } الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا { وَالشَّهَادَةِ } الذي نشاهده.
{ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وإن من أعظم الاختلاف اختلاف الموحدين المخلصين القائلين: إن ما هم عليه هو الحق، وإن لهم الحسنى في الآخرة دون غيرهم، والمشركين الذين اتخذوا من دونك الأنداد والأوثان، وسووا فيك من لا يسوى شيئا، وتنقصوك غاية التنقص، واستبشروا عند ذكر آلهتهم، واشمأزوا عند ذكرك، وزعموا مع هذا أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، وأن لهم الحسنى.
قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله:
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } إلى أن قال: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
وقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }
ففي هذه الآية، بيان عموم خلقه تعالى وعموم علمه، وعموم حكمه بين عباده،.فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات، وعلمه المحيط بكل شيء، دال على حكمه بين عباده وبعثهم، وعلمه بأعمالهم، خيرها وشرها، وبمقادير جزائها، وخلقه دال على علمه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }
{ 47 - 48 }
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
لما ذكر تعالى أنه الحاكم بين عباده، وذكر مقالة المشركين وشناعتها، كأن النفوس تشوقت إلى ما يفعل اللّه بهم يوم القيامة، فأخبر أن لهم { سُوءَ الْعَذَابِ } أي: أشده وأفظعه، كما قالوا أشد الكفر وأشنعه، وأنهم على - الفرض والتقدير - لو كان لهم ما في الأرض جميعا، من ذهبها وفضتها ولؤلؤها وحيواناتها وأشجارها وزروعها وجميع أوانيها وأثاثها ومثله معه، ثم بذلوه يوم القيامة ليفتدوا به من العذاب وينجوا منه، ما قبل منهم، ولا أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئا،
{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
{ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ }
أي: يظنون من السخط العظيم، والمقت الكبير، وقد كانوا يحكمون لأنفسهم بغير ذلك.
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي: الأمور التي تسوؤهم، بسبب صنيعهم وكسبهم. { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من الوعيد والعذاب الذي نزل بهم، وما حل عليهم العقاب.
{ 49 - 52 }
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
يخبر تعالى عن حالة الإنسان وطبيعته، أنه حين يمسه ضر، من مرض أو شدة أو كرب. { دَعَانَا } ملحا في تفريج ما نزل به { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا } فكشفنا ضره وأزلنا مشقته، عاد بربه كافرا، ولمعروفه منكرا. و { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي: علم من اللّه، أني له أهل، وأني مستحق له، لأني كريم عليه، أو على علم مني بطرق تحصيله.
قال تعالى: { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } يبتلي اللّه به عباده، لينظر من يشكره ممن يكفره. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } فلذلك يعدون الفتنة منحة، ويشتبه عليهم الخير المحض، بما قد يكون سببا للخير أو للشر.
قال تعالى: { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: قولهم { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } فما زالت متوارثة عند المكذبين، لا يقرون بنعمة ربهم، ولا يرون له حقا،.فلم يزل دأبهم حتى أهلكوا، ولم يغن { عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } حين جاءهم العذاب.
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } والسيئات في هذا الموضع: العقوبات، لأنها تسوء الإنسان وتحزنه. { وَالَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } فليسوا خيرا من أولئك، ولم يكتب لهم براءة في الزبر.
ولما ذكر أنهم اغتروا بالمال، وزعموا - بجهلهم - أنه يدل على حسن حال صاحبه، أخبرهم تعالى، أن رزقه، لا يدل على ذلك، وأنه { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } من عباده، سواء كان صالحا أو طالحا { وَيَقْدِرُ } الرزق، أي: يضيقه على من يشاء، صالحا أو طالحا، فرزقه مشترك بين البرية،.والإيمان والعمل الصالح يخص به خير البرية. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي: بسط الرزق وقبضه، لعلمهم أن مرجع ذلك، عائد إلى الحكمة والرحمة، وأنه أعلم بحال عبيده، فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم، لأنه لو بسطه لبغوا في الأرض، فيكون تعالى مراعيا في ذلك صلاح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفلاحهم، واللّه أعلم.
__________________
أرجو الدعـــــاء بظاهـــــــــر الغيب
|