وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) سورة البقرة .
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء , وانكشف المستور , وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد :
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها , ويهلك الحرث والنسل , والله لا يحب الفساد).
وإذا انصرف إلى العمل , كانت وجهته الشر والفساد , في قسوة وجفوة ولدد , تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار , ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال .
وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد مما كان يستره بذلاقة اللسان , ونعومة الدهان , والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح .
(والله لا يحب الفساد) ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد .
والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ; ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا , فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات :
(وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم . فحسبه جهنم ولبئس المهاد) .
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض ; وأهلك الحرث والنسل ; ونشر الخراب والدمار ; وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد .
إذا فعل هذا كله ثم قيل له : (اتق الله) تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه , أنكر أن يقال له هذا القول ; واستكبر أن يوجه إلى التقوى ; وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب , وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن (بالإثم) .
فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة , ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به , وامام الله بلا حياء منه ; وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء !!
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة , وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها , وتدع هذا النموذج حيا يتحرك .
تقول في غير تردد : هذا هو . هذا هو الذي عناه القرآن ! وأنت تراه أمامك ماثلاً في الأرض الآن وفي كل آن !!
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم ; واللدد في الخصومة ; والقسوة في الفساد ; والفجور في الإفساد , في مواجهة هذا كله يجبه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة :
(فحسبه جهنم , ولبئس المهاد !)
حسبه ! ففيها الكفاية ! جهنم التي وقودها الناس والحجارة . جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون . جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة . جهنم التي لا تبقي ولا تذر . جهنم التي تكاد تميز من الغيظ !
حسبه جهنم (ولبئس المهاد !) ويا للسخرية القاصمة في ذكر (المهاد)هنا , ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء !!