أحمد ياسين وجهاد المصلين
أما هو فقد نال الأمنية التي تمناها، ووصل غاية الطريق التي سار فيها، ونال الموت شهادة أشهى ما يكون الموت،
وحاله في هذه الشهادة أشبه شيء بحال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الذي دعا في شهر وفاته الذي طعن فيه "اللهم قد كبرت سني وضعفت قوتي فارزقني شهادة في سبيلك واجعلها في بلد نبيك" فنالها عمركما تمناها، وهكذا الشيخ أحمد ياسين رزق الشهادة على كبر سنه وضعف قوته وبجوار الأرض المقدسة التي باركها الله.
لقي الله وهو في ذمته « فمن صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله » وفاضت روحه ورفعت شهادته وتم جهاده في يوم الاثنين الذي تعرض فيه الأعمال على الله.
إن استشهاد الشيخ يمثل مرحلة أخرى في مسيرة جهاده، ويؤثر ذات الأثر الذي كان الشيخ يؤثره في حياته، إن الشيخ الذي قضى عمره وهو يبني في النفوس عزيمة المواجهة للعدو، وقوة الصبر على المدافعة قد أعلى بناءه ذلك بروعة استشهاده.
إن الصور التي رأيناها في جنازة الشيخ لشباب يافعين سوف تصنع فيهم جنازة الشيخ واستشهاده ما لا تصنعه بلاغة الكلام وإطناب العبارة، إن هؤلاء الشباب يُصْنعون ويتربون بمثل هذه الأحداث وتؤسس في ذواتهم معاني ما كانت لتؤسس بغير هذه المشاهد.
إن شهادة الشيخ ياسين وما جرى معها وحولها تحفر خنادق في القلوب تمنعها من الذوبان، وتحول حرارة الحزن إلى وقدة غضب تمنع السكون، وتبعد يهود مسافات شاسعة عن حلم احتواء هذا الشعب وتدجينه.
إن شهادة الشيخ درس تربوي عميق يبين أن القوة الحقيقة في الإرادة والعزيمة والتصميم، وأن معاقاً مشلول الأطراف جعل دولة يهود تقف وجاهة وتدخل معه معركة منازلة بالنذالة التي تليق برجس يهود، إن هذا المريض الذي لا يستطيع تحريك أطرافه استطاع تحريك شعب بأكمله، وكشف الهدف الحقيقي للمواجهة، وجعل أبناء فلسطين يدخلون الجهاد من طريقه الصحيح.
أعطى الشيخ درساً في آخر لحظات حياته أن أصحاب العزائم القوية، والمواجهة المتواصلة هم أصحاب الأيدي المتوضئة، والقلوب المؤمنة، وأن هؤلاء هم الذين يتذوقون لذة الجهاد، وبهجة التوق إلى الشهادة، واسترواح نعيم الجنة. إن الشيخ رزق الشهادة عائداً من صلاة الفجر في المسجد، فإذا كان الشوق إلى صلاة الجماعة يخرج شيخاً مريضاً معاقاً مستهدفاً في غلس الفجر ليكون وداعه للحياة بعدها، فأي دلالة يسكبها ذلك في نفوس الشباب وأي معان نورانية يضيئها في جوانحهم.
إن الذين يجيبون حي على الجهاد هم الذين يجيبون حي على الصلاة.
استشهد الشيخ أحمد ياسين لتكون شهادته حفلاً آخر للعري الأخلاقي لليهود، وليشهد العالم كيف تنـزل الدولة بسلاحها العسكري لقتل الشيخ على حاله من كبر السن والمرض والإعاقة وفي حي سكني يكتظ بالمدنيين ليبين أن القيم والمثل الأخلاقية غائبة في تعامل اليهود قتلة الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس.
كما هو عري آخر لقيم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتجاوز في تعليقها على هذا الإرهاب الصهيوني الدعوة إلى ضبط النفس، وهي دعوة موجهة إلى الفلسطينيين قطعاً، أما شارون فهو مشغول بتبادل التهاني مع شعبه على هذه الجريمة.
إن الإرهاب الذي تحاربه أمريكا هو من صناعتها حينما تكيل بمكيالين، ولا تنظر إلى إرهاب يهود إلا بعينين مغمضتين.
رحم الله الشيخ المجاهد أحمد ياسين الذي سالت دماؤه لتكون وقوداً في الشرايين، ومات ليكون موته حياة لأمته وقضيته.
نسأل الله أن يتقبله وأن يرفع نزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها. ربح البيع أبا محمد'الشيخ ياسين' .. شهادة تلف عنقك السامق
لا ندري كيف نكتب ؛ ودموعنا تسبق كلماتنا , كيف نجلس على مقاعدنا والشيخ يرتفع إلى عنان السماء , كيف تطيب للأمة أن تقر عيونها , ورموزها يستباح دمها الطاهر هنا وهناك ..
لم تعد اليوم قعيدا .. الأمة كلها مشلولة وأنت وحدك تتحرك وتسمو إلى العلا.
نعم قتلوا الرمز والقائد والزعيم والحبيب وقرة العين ومهجة القلب, وإن كانوا قتلوه ,لقد هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل فأمكن الله منهم .. وإن كانوا قتلوه فقد قتلوا أنبياء الله من قبل...
ولئن كانوا قد فعلوا , فهم أهل كل خسة وكل نذالة و كل حقارة .. وما العجب أن تصدر الخسة من أهلها , وإنما الذي يحرق صدورنا أن تسلمه الأمة هكذا , وهو رمزها وقائدها وزعيمها..
استشهد شيخ فلسطين , وبالتزامن مع جنازته العارمة كانت هذه الوقفات :
أولاً : قصد الكيان الصهيوني بقتل الشيخ أن يفرغ فلسطين من رمزها الكبير , وخصوصا غزة التي أصبحت دولة حماس أكثر من أي فصيل آخر , استباقا للانسحاب المفترض من غزة.
ثانياً : ومن الناحية السياسية البحتة , فقد ارتكب شارون أكثر مواقفه رعونة في تاريخه الدموي , إذ يتوقع على نطاق واسع أن يزيد ذلك من شعبية هذه الحركة المجاهدة التي تدفع بمهج قلوبها إلى الشهادة ولا تتاجر بالشهادة على النحو الذي شهده العالم في تمثيلية 'شهيدا ..شهيدا .. شهيدا' التي أداها رئيس السلطة الفلسطينية ببراعة في رام الله قبل نحو عامين.
ثالثاً : وكما يقول صاحب الظلال فـ'إن الناس كلهم يموتون , إلا الشهيد فإنه يستشهد' , يستشهد على حال أمته , ويستشهد على بذله ويستشهد على حياته النضالية كلها , ومعنى ذلك أنه يسطر بدمه الطاهر أجندة مرحلة نضالية جديدة, وهذا بالضبط حال الشيخ الشهيد ـ نحسبه كذلك ـ فاستشهاده على هذا النحو سيرتفع بحال المقاومة الفلسطينية لآفاق ما كانت تصل إليها لولا هذه الدماء التي يدفعها أصحابها دون ضجيج أو استعراض.
أيظن شارون وكل الذين شاركوه من الأمريكيين والرسميين العرب أنهم سيهنئون بارتقاء الشيخ , لا وألف لا .. بل 'لا' تحملها الملايين الغفيرة التي خرجت وراء الشيخ في جنازته .. الأمة الإسلامية لم تنس يحيى عياش ولا إبراهيم المقادمة ولا صلاح شحادة .. بل وهل نسي العالم أن باغتيال الشهيد حسن البنا قد امتد أثره لأكثر من خمسين عاما , هل يدرك الحمقى أنه لو اغتيال البنا وتلاميذه لما جاء ياسين وتلاميذه وأن دماء البنا ما زالت تروي أرض الكنانة كما ستظل دم ياسين تروي أرض الرسالات , فعلى خطى الشهيد سيسير ألف شهيد , وروح شهيد فلسطين , وإن علت ستظل تحفز كل من مشى في طريق التيه العربي أن سبيل الشيخ هو السبيل الحق.
رابعاً : ندرك جميعا أن أطرافا أمريكية وعربية لا شك قد أبلغت بهذه الجريمة التي تتنافى تماما مع حقوق إنسان قعيد لا يستطيع أن يحرك سوى رأسه , لكننا ندرك أيضا أن مكر أولئك هو يبور , وأن هذا الدين يجري بقدر الله وتام رغم أنف كل كفور { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} , وندرك أن حقوق الإنسان يخاطب بها الأناسي ؛ أما من عدموا إنسانيتهم وفارقتهم دماء البشر فلا نتوجه إليه بكلام.
بالطبع , فإن هذه الجريمة لا يمكن فصلها عن رغبة تل أبيب في 'ترتيب الأوضاع في غزة' قبل تسليمها لغيرها , ولا يمكن كذلك فصلها عن عجز واشنطن في أفغانستان والعراق , لا يمكن فصلها عن إخفاق القوم في نيل 'صيدهم الثمين' فداروا عجزهم باستهداف 'الصيد الثمين جدا , والسهل جدا في آن معا'.
خامساً : إنها رسالة إذلال لـ'القمة العربية' التي تلتئم أواخر الشهر الحالي , ولقد دأب على ذلك شارون دوما , فقبل أيام 'القمة السابقة' كان الكيان الدموي يدمر جنين فوق رؤوس أهلها واليوم يعيد كرته الخبيثة المهينة , ولعل الشعب العربي يحتاج اليوم لأن يصرخ في وجه قياداته :'بالله عليكم لا تجتمعوا ' 'لا تفجعونا باجتماعاتكم العقيمة'.
سادساً : هل يعلم الآن جميع ساستنا كم تحب شعوبنا المسلمة من اختط طريق النضال , هل يدركون بأن فلسطين خرجت شيوخها وأطفالها ونساؤها وشبابها حبا لمن توافق أقواله أفعاله ؟ هل يعلمون كم خرج بجنازته وكم سيخرج في جنازاتهم ؟ ربما لا يدركون ولا يفهمون , فإن مسألة الآخرة والعمل لها شأن أهلها وحدهم.
سابعاً : سيكون من الطبيعي أن تحدث ردود أفعال في مجمل أرض فلسطين الحبيبة , لكن الذي لا يفهمه بوش وشارون أن العالم الإسلامي سيدخل مرحلة جديدة من الكراهية لهم لن يحدها حد بشري , وأن ما يسمونه بالعمليات الإرهابية ستتخطى آفاقا لا تحتملها مخيلاتهم .
إن أهمية الحدث في كونه تجاوز سفسطة بوش وعصابته بشأن استهداف الإرهابيين ـ والإرهابيين فقط ـ , فالحديث عن استهداف زعيم روحي مقعد ينسف ما تبقى من منطق بوش وشارون , ويضع فوهات البنادق في وجه شارون وصديقه الأمريكي , إذ إن وضع الشيخ ياسين مع زعيم القاعدة أسامة بن لادن في سلة واحدة , تلك السلة التي وضع فيها الرجلين مسؤول صهيوني صرح بأنه 'تم اغتيال بن لادن فلسطين' , لن يسهم إلا في تأجج مشاعر الغضب وتوافر مقومات الوحدة بين الفصائل المقاومة للهيمنة الأمريكية أيا كانت مشاربها وأيا كانت أيديولوجيتها.
ثامناً : إن بعض ردود الأفعال الرسمية العربية , فضلا عن أنها كانت مخزية ؛ فإن سرعتها الشديدة توحي ـ ربما ـ بأن البعض لم يكن بعيدا عن العملية , إذ مَرَدَ هؤلاء على تأجيل ردود الأفعال لحين الاستئذان من 'السيد الأمريكي'.
تاسعاً : نتوقع ـ ولله الأمر من قبل ومن بعد ـ أن العملية ستكون مؤذنة بمرحلة جديدة من الصراع الإسلامي الصهيوني , وسيكون لها تداعيات قريبة نوعا ما من تداعيات 11 سبتمبر , ونريد هنا أن نذكر بأن العمليات التي نفذت في العام 1996م إثر اغتيال مهندس الانتفاضة يحيى عياش قد ضاعفت من قوة حماس كثيرا جدا , وأن هذا الحادث الجلل سيضاعف من قيمة النضال مرات ومرات وذاك قدر الله فيمن مات شهيدا وتلقته الأمة كلها بالقبول [ولشيخ الإسلام كلام طيب في هذا الخصوص حول سؤال بشأن إجماع الأمة على خيرية مسلم ـ كابن المبارك وغيره ـ هل يعد ذلك دليلا شرعيا على الجزم له بالجنة , فليراجع في مظانه].
عاشرًا : الشيخ أحمد ياسين وسط هذا الضجيج , أتراه قد استراح ؟ ما نظن إلا ذلك .. فلقد مضى بعد أن صلى الفجر وختم الصلاة من مسجد المجمع الإسلامي .. من ذات المسجد الذي أسس فيه دعوته المباركة , وأذن فيه لانتفاضة الخير أن تقوم .. ليهنأك البيع شيخنا العظيم .. ليهنأك الشهادة من أهل الخير .. لتهنأك الشهادة إن شاء الله.
من مسجد المجمع الإسلامي كانت البداية , ومنه كان الارتقاء , وفي المسجد العمري كان الوداع .. وبين المسجدين يختزل تاريخ فلسطين الأثيل.
'وإنا لله , وإنا إليه راجعون'
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا , بل أحياء عند ربهم يرزقون , فرحين بما آتاهم الله من فضله , ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون , يستبشرون بنعمة من الله وفضل , وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين }.
|