فلما جاء جساس قال له : ما وراءك يا بني ؟ قال : ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا، قال : وماهي ؟ لأمك الويل أقتـلت كليبا؟ فقال : نعم، فقال أبوه : إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك في صلاح العشيرة والله لبئس ما فعلت!
فرقت جماعتك وأطلت حربها وقتـلت سيدها في شارف من الإبل والله لا تجتمع وائل بعدها ولا يقوم لها عماد في العرب ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا مابي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا : لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك، فأمسك مرة.
ولما قُتـل كليب اجتمعت نساء الحي للمأتم، فقلن لأخت كليب : رحلي جليلة من مأتمك، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها : يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها، فقالت لها أخت كليب : رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت : وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها أسعد الله جد أختي أفلا قالت: نفر الحياء وخوف الاعتداء.
ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها : ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت : ثكل العدد وحزن الأبد وفقد حليل وقـتل أخ عن قليل وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد، فقال لها : أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت : أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها.
وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً، فلما ظعن مره بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية، وأمره أن يظعن ويلحق بقومه، وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام : إن له لأمراً والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط في ركض، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليها، وهما معتزلان في جانب الحي، فوثب همام إليها، فسارته أن جساساً قتـل كليباً، وأن أباه قد ظعن مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع، فقال له المهلهل : ما شأن الجارية والفرس ؟ وما بالك ؟ فقال : اشرب ودع عنك الباطل، قال : وما ذاك ؟ فقال : زعمت أن جساساً قـتل كليباً، فضحك المهلهل وقال : همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت ثم أقبلا على شرابهما، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن، وهمام يشرب شرف الخائف، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان وقد قوضوا الخيام وجمعوا الخيل والنعم ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى.