فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان يستخبرونه : تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها والغلام عن أبيه وأخيه، ثم إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترفأ وأجساد لا تدفن وسيوف مشهورة ورماح مشرعة وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتـل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر عنكم إلى اليمن.
ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب زواج سليمى في مذحج، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها.
وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم وتركوا الفتنة ولم يحضر المهلهل صلحهم، ثم اشتاق إلى أهله وقومه، ولجت عليه ابنته سليمي بالمسير إلى الديار فأجابها إلى ذلك، ورجع نحو قومه حتى قرب من قبر أخيه كليب وكانت عليه قبة رفيعة فلما رآه خنقته العبرة وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً، فوثب عنه المهلهل وضرب عرقوبيه بالسيف وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً وما وكده (قصده) إلا الحرب ولا يهم بصلح ولا يشرب خمراً ولا يلهو بلهو ولا يحل لأمته ولا يغتسل بماء حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.