من مركز ثقافي إلى مقر سياسي
إن مسجد الأندلس بعد هاته الوقعة فقد مركزه الثقافي وأصبح مقرا سياسيا يوجه السكان إلى خطط جديدة خصوصا بعد أن استقلت العدوة عن الأخرى وذلك حينما حاول الأمويون إيعاد شبح العبيديين عن المغرب مرة أخرى فقد أعطوا أمرهم لزيري بن عطية المغراوي باحتلال المغرب فأرسل قائده عسكلان الذي احتل عدوة الأندلس سنة 375هـ، واستغل منبر جامع الأندلس للدعاية لبني أمية وأعلن البيعة لعبد الرحمن الناصر في حين أن عدوة القرويين بقيت في يد العبيديين إلى سنة 376هـ. ثم وقع ذلك مرة أخرى حينما استقل فتوح ابن دوناس المغراوي بعدوة الأندلس وأخوه عجيسة بعدوة القرويين.
إن هذا الاضطراب افقد البلاد ازدهارها وأطفأ شعلتها وزال لمسجد الأندلس مكانته الثقافية ولم يسلم المغرب من هذا الاضطراب إلا حينما استولى المرابطون على المغرب بقيادة يوسف بن تاشفين الذي دخل مدينة فاس سنة 462هأ، بعد حصار طويل وبعد أن قتـل من أهلها عددا كبيرا وذكر ابن أبي زرع أن ابن تاشقين قتـل بجامع القرويين وبجامع الأندلس ما يزيد على ثلاثة آلاف.
وفي أيامه استتب الأمن في البلاد لأنه كان مشتهرا بالحزم والجرأة في مجابهة المخالفين ولقد عمل على نشر المهب المالكي بكل الوسائل وعمر المساجد وأعطى الأوامر بعقاب الذين لا يبنونها بإحيائهم لذلك كثرت وانتشرت فلا تمر إلا خطوات حتى تجد مسجدا يذكر فيه اسم الله أو يعلم فيه كتابه أو يلقن فيه درس في الثقافة العامة.
جامع الأمويين في عهد المرابطين
إلا أن الملاحظ يرى أن جامع الأندلس في أيام المرابطين فقد تلك المكانة التي كان يمتاز بها من قبل وأصبح مسجدا عاديا وتوجهت عناية الدولة إلى جامع القرويين فهذا على بن يوسف بن تاشفين قد وسع مسجد القرويين وزينه بكثير من النقوش ووشى جدرانه بالزخارف البديعة في حين أنه لم يفعل شيئا من ذلك في مسجد الأندلس ولعل السبب يرجع إلى الظاهرة الجديدة التي أصبحت عليها مدينة فاس بعد احتلالها من طرف يوسف بن تاشفين لأن هدم الأسوار التي كانت تحجز بين العدوتين وصير المدينتين مدينة واحدة فقد سئم من تلك الوضعية التي كانت عليها البلاد لأنها كانت تجر دائما إلى التفرقة والثورة ويكفي فاسا ما قاسته أيام المغراويين ويكفيها ما شاهدته من الأهوال أيام تنافس العبيديين والأمويين وأن المصلحة تقضي الوحدة بين جزئيها ولم شتاتها وتوجيه سكانها إلى مسجد واحد يدرسون به وتكون له الأهمية الكبرى في البلد فقر رأيهم أن يكون هذا المسجد هو جامع القرويين ولذلك لا نجد لمسجد الأندلس في عهدهم شخصية يمتاز بها دون غيره.
بعث دور الجامع في عهد الموحدين
فلما انقضى عهدهم وتولى الكم أصحاب المهدي بن تومرت رجعت مكانته لحاجة الموحدين إلى المساجد يشرحون فيها نظريتهم التي يدعون إليها ويبينون للناس مدى الفرق بين التحرر الفكري الذي يسبرون عليه وبين ما كان عليه الفقهاء أيام المرابطين لقد استغلوا المساجد حينذاك في شرح العقيدة الأشعرية وشجعوا المجددين الذين يعملون على نشرها واشترطوا في الخطباء أن يكونوا عارفين باللغة البربرية بعيدين عن التقيد بمذهب مالك وأصبح مسجد الأندلس يشارك بدوره في توجيه الأفكار ضد المذهب المالكي سيرا مع الدولة الحاكمة التي قاومته بكل نشاط خصوصا أيام الناصر الذي بويع له سنة 595هـ قال عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب: وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يحرر ما فيها من حديث رسول الله ص والقرآن ففعل ذلك وأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبرادعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها قال ولقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالاحمال فتوضع ويطلق فيها النار ثم قال وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة وحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهره وأظهره يعقوب هذا.
ولا شك أن مثل هذا التضييق على مذهب مالك فيه الضغط والإكراه بل يحتاج أيضا إلى تبيين ذلك على أسس العلم والمعرفة وتلك مهمة العلماء في المساجد وإذا كان مسجد الأندلس في تاريخه مرتبطا بحلقات دروس الفقهاء المالكيين فلماذا لا يرجع أيام الموحدين مركزا للدراسات الجديدة؟ لذلك استقر رأي الناصر الموحدي على تجديده وادخل فيه من الإصلاحات ما بقي خالدا إلى الآن ويكفيه فخرا أنه هو الذي بنى أعظم أبوابه وأحسنها زخرفة تلك هي الباب المدرجة التي توجد في جنوب المسجد.
إدخال إصلاحات ها مة تطال جامع فاس
قال الناصريوفي سنة 604هـ، أمر الناصر ببناء دار الوضوء والسقاية بإزاء الجامع وجلب إليها الماء من العين التي ارج باب الحديد وأمر ببناء الباب الكبير المدرج الذي بحصن الجامع وانفق عن ذلك كله من بيت المال.
وأصبح المسجد بعد هذا الإصلاح من أعظم مساجد فاس وتهافت الناس على التعبد فيه والاستماع إلى العلماء والخطباء من منبره خصوصا في السنوات الأولى بعد إصلاحه أن مدة ازدهاره لن تدم نظرا لوفاة الناصر الذي كان حريصا على نشر العلم ونظرا للسبيل العظيم الذي جرف عدوة الأندلس سنة 626هـ فهدم من جامعها ثلاثة بلاطات وهدم دورا كثيرة وفنادق متعددة ونظرا للحالة التي كانت عليها البلد حينذاك فإن الدولة الموحدية كانت في حالة احتضار بعد موت الناصر سنة610هـ، ولم يبق لها الفراغ للعمل على رتق ما فسد إنما كانت تقضي أيامها في الحروب الداخلية التي منيت بها بسبب الخلاف الحاصل بين أفرادها وبسبب اكتساح بني مرين لنواحي فاس وسبب استقلال الدولة الحفصية بتونس وبسبب المحاولة التي قام بها بنو عبد الواد في الجزائر ليستقلوا عن حكم الموحدين لذلك بقي مسجد الأندلس مهدما في بعض الجوانب لا تقام الصلاة إلا في جزء منه حتى إذا كانت سنة695هـ، في أيام المرينيين عرف خطيبه وإمامه الشيخ أبو عبد الله محمد بن مونة الأمير أبا يعقوب ابن أبي يوسف بن عبد الحق بحالته فجدد وأصلحه من مال الأوقاف.
وبعد هذا الإصلاح أصبح المسجد كلية تكاد مختصة بدراسة الفقه المالكي وتحليل كتبه لأن رد الفعل من بني مرين كان في منتهاه ضد الموحدين وأصبحوا يحيون من جديد جميع الكتب التي أحرقت في أيامهم وقام العلماء بتدريس ذلك في جامع الأندلس فهذا أبو الربيع سليمان الونشريسي الفاسي المتوفى في سنة 705هـ، كان يدرس بهذا المسجد كتاب التفريع لابن الجلاب والمدونة يقوم عليهما أتم قيام ولأهمية دروسه كان يحضره علماء البلد الأكفاء فقد كان يحضر مجلسه خلف الله المجاصيالذي كان يحفظ المقدمات والتحصيل والبيان لابن رشد والقاضي أبو سالم ابراهيم اليزناسني.
ازدهار هذا الجامع في عهد المرينيين
وفي عهد المرينيين بلغ ازدهار هذا المسجد أوجه لأنهم كانوا يعتنون بالعلم عناية فائقة ويعملون على نشره بكل الوسائل خصوصا في أيام أبي سعيد عثمان وأبي الحسن وأبي عنان فلقد بنى أبو الحسن مدرسة الصهريج بإزائه ليقرب على الطلبة مشقة اليسر وليجعل مأواهم قرب المسجد الذي يدرسون به وكذلك بنى مدرسة السبعين وجعلها خاصة للروايات السبع في القرءان.
ورغم أن مسجد الأندلس كان يدرس به في هذا العهد بعض فطاحل العلماء ويخطب به فضلاؤهم فقد كان يعتبره بعض الخطباء دون جامع القرويين لذلك نرى أن ابن الحباك المكناسي المتوفى سنة870هـ حينما كان خطيبا بالقرويين وأزيل من الخطبة طولب بعد ذلك بالإمامة بجامع الأندلس فأبى وقال إذا كان خلعي عن تجريح فأنا لا أصلح لإمامة الأندلس أيضا وإن كان ير ذلك فقبولي من قلة الهمةوعلق ابن زيدان على هاته الملاحظة فقال لأن منصب الخطابة بالقرويين أشرف من منصب الإمامة بالأندلس.
ربما أن البحث قد جرنا إلى ذكر بعض الخطباء والمدرسين بجامع الأندلس فإني أرى واجبا على أن أذكر من بينهم العلامة الفاضل عليا بن عبد الرحمن الأنفاسي المتوفى سنة860هـ لقد كان مطلعا على الفقه المالكي وانتفع به في قراءة المدونة جماعة من العلماء كالشيخ زروق والأستاذ الصغير النيجي والعلامة ابن غازي ذكره في سلوة الأنفاس فقال: حكي أن الناس احتاجوا في أيامه للمطر فسألوه أن يستغيت لهم ويستسقي والحوا عليه في ذلك فوعدهم ليوم ثالث من يومئذ ولما كان الغد أخرج ما عنده من الزرع وصيره صيرة في صحن جامع الأندلس ثم تصدق به وقال لهم الآن ابكي كبكاء المسلمين فاستقسى لهم فسقوا وبعد وفاته تولى الخطابة بالمسجد تلميذه أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد بن حمامة الأوربي النيجي المعروف بالصغير ذكر ابن غازي أنه لازمه كثيرا وقرأ عليه القرءان ثلاث ختمات آخرها للقراءات السبعة وذكر المنجور في فهرسته إنه ختم عليه القرءان بالقراءات السبعة ثلاثمائة طالب وتوفي سنة 887هـ، وبعد وفاته تولى الخطابة أبو الحسن علي بن القاسم التجيبي الشهير بالزقاق صاحب النظم المعروف بالزقاقية توفي سنة 912هـ.
وإذا تتبع الباحث هؤلاء الخطباء أيام بني مرين وبني وطاس فإنه سيجدهم من العلماء المبرزين ويكفيك دليلا على ذلك أن من بينهم رواية المغرب ومفتي فاس أبا محمد عبد الله بن علي بن أحمد العاصمي المعروف بسقين لقد كان مشتهرا بعلمه في الشرق والمغرب رحل إلى المشرق سنة 909هـ وزار بلاد السودان وروى الحديث بمصر عن القلقشندي وزكرياء الأنصاري والسخاوي ورواه بمكة عن ابن فهد وكلهم ن الحافظ بن حجر لذلك اجتمع له من العلم بالحديث ما لم يتسير لغيره من أهل فاسخطب بجامع الأندلس سنة 944 إلى أن توفى سنة 956هـ، وهي السنة التي استولى فيها محمد الشيخ السعدي على فاس.
لقد رأى محمد الشيخ أن الدولة السابقة كانت تعتني بجامع الأندلس فتختار لها من العلماء والخطباء ذوي الكفاءة والفضل فسار على نهجهم ولما وفد على فاس العالم التلمساني أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان المغراوي قلده السلطان منصب الفتوى والتدريس المغراوي خطيبا بمسجد الأندلس فاستمر به مدة ثماني سنوات ثم انتقل بعد ذلك إلى الخطبة بجامع القرويين.
جامع الأندلس في عهد السعديين
وسار السعديون على النهج رغم اشتغالهم بالحروب ومحافظة الثغور ومعارضة التدخل الأجنبي لأن اهتمامهم بالعلم كان من أسس سيرتهم خصوصا في أيام أحمد المنصور الذهبي الذي تولى الملك سنة 986هـ بعد الانتصار العظيم الذي حصل عليه بوادي المخازن وبعد القضاء على كل سعي يحاول الأجنبي القيام به لاحتلال البلاد من جديد.
وفي أيامه كان المتولي لخطابة الأندلس والتدريس به العالم الشهير يحيى بن محمد السراج الأندلسي وهو حفيد الشيخ يحيى السراج صاحب ابن عباد وكان ماهرا في علوم الفقه مدرسا يعرف المدونة ويدرسها توفي سنة 1007هـ.
ورغم اعتناء السعديين بالدراسة في هذا المسجد واختبار أحسن الخطباء له فهم لم يهتموا ببنايته ولم يصلحوه لذلك وجده العلويون في حاجة إلى عنايتهم فقام المولى إسماعيل فخر الدولة العلوية ومحرر المهدية والعرائش من يد الاسبان وطنجة من يد الانجليز بتجديده وترصيفه يقول ابن زيدان في كتاب الدرر الفاخرة حين تحدثه عن المولى إسماعيل: وفي عام 1093هـ جدد مسجد الأندلس ورصف صحنه بالزليج يشهد بذلك ما هو منقوش في الخشب خارج قبة السقاية هناك ولفظه:
مولاي اسماعيل البسني البها *** فسحــبت ذيلي فوق كــل نـفيس
زهوي ببيت الله حسبي مفخرا*** إذ صـرت أجلي فيه جلو عروس
فرفعت فوق السلسبيل سرادفا ***في عام 1093 يحمل شاهد تأسيسي
وكان ابتداء العمل فيه عام تسع وثمانين وألف هـ.