
05-11-2013, 01:02 PM
|
عضو لامع
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2008
المشاركات: 15,340
معدل تقييم المستوى: 0
|
|
جامع بن يوسف بمراكش - المغرب
بني مسجد بن يوسف بمراكش على يد علي بن يوسف اللمتوني سنة 525 هـ، على قطعة أرضية مساحتها 5000 م²، وأعاد بناءه المولى سليمان سنة 1235 هـ 1819 -1820ميلادية.
مقدمة:
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترتع في رِبْقَةِ الجهل، وتتقلب في ظُلُمات الانحطاط والتأخر - كانت الحضارة الإسلاميَّة في أوج مَجدها وعظمتها في شَتَّى ألوان الآداب والعلوم والفنون، مؤلفة الكتب في كُلِّ علم، ومُسطِّرة التقدم في كل مضمار، ومُشيدة لتلك القصور والنَّوادي والمراكز والجوامع في كل صقع، فكان جامع القرمللى بطرابلس، وجامعة القيروان، وجامع الزيتونة وتلمسان..
وعلى الرَّغم من البعد الجغرافي للمغرب الأقصى عن الشَّرق، فقد ظل حضاريًّا قريبًا منه، بفضل المراكز العلميَّة التي كانت مقصد طلاب العلم من مختلف الأصقاع، فاشتهرت بها الحواضر والمدن التي احتضنتها.
فإذا كانت مدينة "فاس" بالمغرب قد اشتهرت بجامع القرويين، فإنَّ مراكش عاصمة الجنوب قد اشتهرت أيضًا بجامع ابن يوسف، وابن يوسف هذا هو أبو الحسن علي، الابن الأكبر ليوسف بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني، مُقعِّد قواعد دولة المرابطين، ومُؤسس مدينة مراكش الحمراء، الذي عرف بالحزم والصَّرامة، حيثُ باشر أمورَ المغرب الأقصى بقوة، بمجرد تسلُّمه مقاليد الحكم من أبيه، وكان في بداية حكمه شديدَ الحرص على توحيد جهات المغرب.
أولاً: في مفهوم الجامع وأهميته
ولا بُدَّ من الإشارة في البداية إلى أنَّ مصطلح الجامع دالٌّ على المسجد الكبير، الذي تقام فيه صلاة الجمعة، بَيْدَ أنَّه لم ترد هذه التسمية في القرآن الكريم، وإنَّما وردت فيه عبارة المسجد، فيقال: "مسجد مكة"، و"مسجد المدينة"، و"مسجد قباء"، وصفًا للمسجد، وجدير بالذِّكْر أنَّه ورد الجامع في الحديث؛ إذ ترجم البخاري في الصَّحيح: "باب الاستسقاء في المسجد الجامع".
لقد وجد في المغرب المسجد والجامع، واسْتُعْمِلَ فيه الاسمان معًا دون أن يكون بينهما حدٌّ فاصل، إلاَّ أن الجامع أخذ اهتمامًا أكبر في كتب التاريخ والحوليَّات والحوالات الوقفيَّة؛ لأهميته، وسعته، وتعدد مرافقه، وزخارفه، ووفرة ريع أوقافه في أغلب الأحيان.
وقد حقَّ ما قاله المستشرق (ليفي بروفنسال) عن أهميَّة الجامع في الحضارة الإسلاميَّة؛ حيثُ قال: المركز الحقيقي الذي يُعَدُّ قلب المدينة الخفَّاق هو المسجد الجامع، وما يلاصقه في أي مدينة إسلاميَّة لها شيء من الأهمية، ذو منزلة تُغني على كل إطناب، ذلك بأنه ليس بيت العبادة فحسب، ولكنَّه المركز الذي تدور حوله الحياة الدينية، والعقلية، والسياسية للمدينة.
إلى درجة قوله: المسجد الجامع - لا مَقَر الحكومة - هو الذي يَجب أن يتخذ مِفْتاحًا لكل دراسة طبوغرافيَّة أو تاريخيَّة، في أي مدينة إسلاميَّة، والواقع أنه من النَّادر أن يصف جغرافِيٌّ عربي مدينة دون أن يبدأ بجملة من الأخبار عن المسجد الجامع فيها.
وعليه؛ فالمسجدُ الجامع هو القلب النابض الذي تنطلق منه الدقات الحضارية؛ فهو مجال التعبد أولاً، ومكان التواصل والتآلف ثانيًا.
وعليه؛ فإنَّ الحديث عن مسجد ابن يوسف، كصرح شامخ، ومنارة للهدى عبر العصور، ومركز للإشعاع المعرفي، وحقل لصقل المواهب والعبقريَّات، وحرم جامعي خالد ومتميز - حديثٌ يستدعي الوقوف والتأمُّل لاستخلاص الدُّروس والعبر.
ثانيًا: ابن يوسف والتأسيس والإصلاحات
لقد جعلت بعضُ الوقائع التاريخيَّة الدولةَ المرابطيَّة في مواجهة من القوى الإقليميَّة الكبرى، وكان اللِّقاء التاريخي بموقعة الزلاقة الفاصلة، فزادَ الدَّولة بهذا النصر فخرًا آخرَ، ومكسبًا جديدًا، وقد أرادت الدولة المرابطية أن تعزز هذا السبق العسكري بسبق علمي ومعرفي، فكان التفكير في تأسيس معلمة تنبعث منها أنوارُ الهداية، وتَخرج منها المعارف الإسلاميَّة، ولم تَكُن ثَمرة ذلك سوى جامع ابن يوسف.
وقد اختلفت المصادر التاريخيَّة في سنة تأسيسه، فذهب ابن القطان والزَّركشي وصاحب الحلل إلى نهاية سنة 520 هـ.
بَيْدَ أنَّ ما يجعلنا نستبعد هذا التاريخ أنَّ صاحب "الحلل الموشية" نفسه يعودُ فيؤكد: أن محمدَّ بن تومرت نَاظَرَ فقهاء المالكيَّة مناظرته الشهيرة، بمسجد ابن يوسف سنة 515 هـ، وهذا يدُلُّ على أنه كان قائمَ الدَّعائم، قبل السنة التي حددتها تلك المصادر، ويُؤكد ذلك محمد بن عثمان المراكشي بقوله: "ولما انتهى الإمام المرابطي من تشييده سنة 514 هـ، زوَّده بحظ أوفر من عنايته، وجَلَبَ أهل العلم والفَضْل لساحته، وجمع رجالَ الفكرِ والأدب بجانبه، فوَطِئته أقدامُ الأندلس، وحلَّت به ركابه الأولى، وتدفق فيه علمها وآدابها.
كما استدل العلاَّمة الرحالي الفاروق على أنَّ سنة تأسيسه كانت سنة 514 هـ؛ استنادًا إلى ما ذكره ابن خَلْدون حول مناظرة المهدي، والفقهاء اللمتونيين، التي تَمَّت في ظل الجامع عام 515 هـ.
وعليه؛ فالرَّاجح أنَّ النواة الأولى لهذه الجامعة - جامع ابن يوسف - تأسست عام 514هـ، في وسط المدينة، على مساحة فسيحة تبلغ نحو 10000 متر مربع؛ ليكونَ دار علم ومعرفة، وتقلصت هذه المساحة مع مرور الزَّمن، ووصف الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي في كتابه "وصف إفريقيا" عن مشاهدة جامع ابن يوسف قائلاً : "إنَّه في غاية الحسن".
وقد عرف الجامع عدَّة إصلاحات وتجديدات عبر القرون؛ هَدَفَ بعضٌ منها إلى طمس معالم مؤسسه الأول، وفي هذا الصَّدد يذكر الحسن الوزان تبعًا لمؤرخين سابقين أن: "عبدالمؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية هَدَمَ هذا الجامع، وأعاد بناءه؛ ليمحوَ اسمَ مُؤسسه علي بن يوسف، ويَجعل اسمه هو مكانه"، بَيْدَ أن عمله ذهب سُدًى، والدليل على ذلك أنَّه لا يجري على ألسنة النَّاس إلى الآن إلا الاسم القديم: "جامع ابن يوسف".
وقد تقلَّصت مساحته أثناء عمليَّة التَّرميم، وكان آخر من جدَّده السلطانُ المولى سليمان عام 1236 - 1820 بناه بناء ضخمًا، وأزال منارته الأصليَّة التي كانت له قديمًا، ولا زال آثارها ظاهرًا، وشيد منارة أخرى بديعة الحسن رائعة الصنعة - حَسَبَ تَعبير صاحب "الاستقصاء" - كما أنَّ الملك محمد الخامس أمر بتنظيم الدِّراسة فيه على غرار مسجد القرويين، وذلك في 1938م، وهو إلى اليوم يحتفظ بنفس الشكل الذي وصفه المستشرق الفرنسي كاستون دوفيردان Gaston Deverdun.
|