ففي هيئة الوقوف ما فيها من حنان النَّبي صلَّ الله عليه وسلم، وحبِّه لها، وقد كان بوسعه أن يجعلها تشاهد المشهد وحدها، بتهيئة مكان تطلُّ منه على لعب الحبشة بالحراب، وقد كان ممكنًا أن يقف إلى جوارها، دون أن يجعل من كتفه الكريم موئلً لرأسها، تستند عليه وتطلُّ على المشهد من خلاله، وقد كان ممكنًا أيضًا أن لا يقف معها حتى تنتهي- وقد أطالت- بل كان مقبولً أن يقف قليلً ثمَّ ينصرف لشأنه، وقد حمل ما حمل من أعباء الدعوة وأمر الأمة!
لكن هذا الإمكان كله منفي في حقِّ الصِّدِّيقة، ففي إفساحه الوقت لها، شاهد حبٍّ لا يتلعثم، وفي إطالة الوقوف شاهد آخر، وفي هيئة الوقوف شاهدٌ ثالث، وفي احتماله إطالة الوقوف شاهد رابع، وفي رعايته لحداثة سنها، وصبره الودود، ولطفه الحاني، شاهدٌ وشاهدٌ، فهو موقف زاخر بشواهد الفضل - التي لا تنتهي - على عظيم مكانة أُمِّنا الصِّدِّيقة عند خير الخلق صلَّ الله عليه وسلم.
كما كان صلَّ الله عليه وسلم يسمح لها بالترفيه عن نفسها يوم العيد، ويشاركها في مرحها، فعنها رضي الله عنها قالت: ((دخل النَّبي صلَّ الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحَوَّل وجهه، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلَّ الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلَّ الله عليه وسلم وقال: دعهما. فلما غفل غمزتُما فخَرَجتا)).
وكان صلَّ الله عليه وسلم من شدة حبِّه لها ينزل إلى رغباتها، ويشاركها في لعبها، فعنها رضي الله عنها: ((أنَّا كانت مع النَّبي صلَّ الله عليه وسلم في سفرٍ، قالتْ: فسابقتُه فسبقْتُه على رجلي، فلما حمَلتُ اللحمسابقتُه فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة)).
وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تطييب خاطرها، ومراعاة مشاعرها، تقول عائشة رضي الله عنها: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلَّ الحج، فلما جئنا سرِف طمثتُ، فدخل عليَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أنِّ لم أحجَّ العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإنَّ ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاجُّ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. وفي رواية أنَّه قال لها: ((فلا يضرُّكِ، فكوني في حجِّك، فعسى الله أن يرزقكيها)).
فلما طهرت وطافت قالت عائشة رضي الله عنها: ((يا رسول الله، أتنطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحجة؟ قال: ثم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدِّيق أن ينطلق معها إلى التنعيم، فاعتمرت عمرة في ذي الحجة بعد أيام الحج)). وفي رواية: ((وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلً سهلً، إذا هويتْ الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبدالرحمن بن أبي بكر، فأهلَّت بعمرة من التنعيم)).
وقد وجعتْ يومًا فقالت: ((وارأساه. فقال النَّبي صلَّ الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه)). قال بدر الدين الزركشي رحمه الله: (فيه إشارة للغاية في الموافقة حتى تألَّ بألمها، فكأنَّه أخبرها بصدق محبته حتى واساها في الألم).