عائشة في عهد أبي بكر
تولَّ أبو بكر رضي الله عنه الخلافة بعد رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، بعد مبايعة أصحاب النَّبي صلَّ الله عليه وسلم له.
ولزمت السيدة بعد وفاة النَّبي صلَّ الله عليه وسلم حُجرتها، تُعزِّي نفسها بجواره صلَّ الله عليه وسلم.
ولم يظهر للناس دورها العلمي الَّذي قامت بعد ذلك به ظهورًا بارزًا؛ نظرًا لحداثة العهد بالنبي صلَّ الله عليه وسلم، وفداحة المصيبة بموته صلَّ الله عليه وسلم، مع انشغال النَّاس بحروب الرِّدة.
لكن مع ذلك لما أراد أزواج النَّبي صلَّ الله عليه وسلم أن يرسلنَ عثمان
إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنَّ من رسول الله صلَّ الله عليه وسلم قالت السيدة لهنَّ: ((أوليس قد قال رسول الله صلَّ الله عليه وسلم: لا نُورَث، ما تركناه فهو صدقة )).
وكان أبو بكر رضي الله عنه يرجع إلى عائشة في الأمور الشرعية التي تخفى عليه، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة قالت: ((دخلت على أبي بكر فقال: في كم كفنتم النَّبي صلَّ الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سَحوليَّة
ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أيِّ يوم تُوُفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين. قال: فأيُّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين)).
وكانت رضي الله عنها تقوم بدورها في إجابة المستفتين في عهد أبي بكر، فيقول محمد بن أبي بكر
: (كانت عائشة قد استقلَّت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلمَّ جرًّا، إلى أن ماتت، يرحمها الله)
ولم تطل خلافة الصِّدِّيق؛ فكانت خلافته سنتين، وثلاثة أشهر، وعشر ليال. وامتدَّ المرض بأبي بكر خمسة عشر يومًا، والناس يعودونه، والسيدة تُشرف على تمريضه، وأثناء ذلك كانت تُعَزِّي نفسها؛ فتتمثَّل ببعض الأشعار، فيُنبِّهها رضي الله عنه، وهو في سياقة الموت، لتستبدلها بالآيات القرآنية، ولما حضرته الوفاة قالت
رضي الله عنها كلمة من قول حاتم:
لعَمْرك ما يُغني الثَّراءُ عن الفتَى *** إذا حَشْرَجتْ يومًا وضاق بها الصَّدرُ
فقال: لا تقولي هكذا يا بُنيَّة، ولكن قولي: ﴿
وَجَاءٓتَ سَكۡرَة ٱلمۡوۡتِ بٱِلۡحقَۖ ذَلٰكِ مَاكُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ﴾.
وأوصى أبو بكر عائشة رضي الله عنهما أن يُدفَن إلى جنب رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، فلما تُوُفِّ حُفِر له في حجرة السيدة، وجُعل رأسه عند كتفي رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، وأُلصق اللَّحْد بقبر رسول الله صلَّ الله عليه وسلم
، وجُعل قبر أبي بكر مثل قبر النَّبي صلَّ الله عليه وسلم مسطَّحًا، ورُشَّ عليه الماء.
واختار أبو بكر من بين أولاده ابنته عائشة؛ لتتولَّ تنفيذ وصيته، ومنها قوله لها:
قد كنت نحلتك حائطًا
- بستانًا- وإنَّ في نفسي منه شيئًا، فرُدِّيه إلى الميراث.
قالت: نعم، فرددته، فقال: أما إنَّا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولادرهمًا، ولكنَّا قد أكلنا من جَريشطعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا
البعير النَّاضِح
، وجَرْد هذه القطيفة، فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إلى عمر،وأبرئي منهنَّ.
ففعلت. فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده؛ رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده