عائشة في عهد عثمان
اتسعت رقعة الدولة المسلمة في عهد عثمان رضي الله عنه، ودخلت في الإسلام أُمم وشعوب كثيرة، وكثرت حاجة النَّاس إلى علم أُمِّ المؤمنين وفقهها، فقصدوها من كلِّ حَدَب وصَوْب
؛ لذا زادت المكانة العلمية لعائشة رضي الله عنها في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ولم يكن عثمان رضي الله عنه أقلَّ من عمر عناية بأُمَّهات المؤمنين، ورعاية لهنَّ، واهتمامًا بشؤونهنَّ، فقد حجَّ بأُمَّهات المؤمنين، فصنع بهنَّ كما صنع عمر، فكان عبد الرحمن بن عوف في موضعه، وجعل في موضع نفسه الصحابي الجليل سعيد
ابن زيد، هذا في مؤخَّر القطار وهذا في مقدَّمه.
ولا شك أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت من أعرف النَّاس بفضائل عثمان، ومناقبه، ومكانته عند رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، وقد انفردت برواية عدة أحاديث عن النَّبي صلَّ الله عليه وسلم في فضائله ومناقبه، مما يدلُّ دلالة قاطعة على تقديرها له.
وعائشة رضي الله عنها هي التي روت أيضًا حديث وصية النَّبي صلَّ الله عليه وسلم لعثمان؛ لكي لا يتنازل عن الخلافة إن وليها، مهما طلبوا منه ذلك، فقالت: ((قال رسول الله صلَّ الله عليه وسلم: يا عثمان، إنْ ولَّك الله هذا الأمر يومًا، فأرادك المنافقون على أن تخلع قميصك الَّذي قمَّصكالله، فلا تخلعه. يقول ذلك
ثلاث مرات، قال النعمان بن بشير))): فقلت لعائشة: ما منعك أن تُعلمي النَّاس بهذا؟ قالت: أُنسيته)).
وروت أيضًا أنَّ النَّبي صلَّ الله عليه وسلم قال في مرضه:
((وددتُ أنَّ عندي بعض أصحابي. قلنا: يا رسول الله، ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عمر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عثمان؟ قال: نعم. فجاء فخَلَ به، فجعل النَّبي صلَّ الله عليه وسلم يُكلِّمه، ووَجْه عثمان يتغيَّ، قال قيس بن أبي حازمراوي الحديث عن عائشة: فحدَّثني أبو سهلة مولى عثمان، أنَّ عثمان بن عفان قال يوم الدار: إنَّ رسول الله صلَّ الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدًا، فأنا صائر إليه، وفي رواية: فأنا صابر عليه. قال قيس: فكانوا يَرَوْنه ذلك اليوم)).
وظلَّت السيدة عائشة على مودتها لعثمان وتقديرها له، إلى أن قُتِل رضي الله عنه شهيدًا، فكانت رضي الله عنها أوَّل من طالب بدمه، والاقتصاص من ***ته والثائرين عليه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، كما أنَّ عثمان ظلَّ أيضًا على محبته وتقديره، ورعايته
وتكريمه لعائشة وبقية أُمَّهات المؤمنين، إلى آخر حياته رضي الله عنه.
وكان الثائرون والغوغاءقد غلبوا على المدينة المنورة، وقد بلغت بهم الوقاحة أن اعتدوا على أُمِّ المؤمنين أُمِّ حبيبة رضي الله عنها، عندما حاولت إيصال الماء إلى عثمان، وهو محصور في بيته، بعد أن منعوا عنه الماء، فجاءت راكبة على بغلة، فقطعوا
حزام البغلة، ونَدَّت بها، وكادت أن تسقط عنها، وكادت تُقْتل لولا تلاحق بها النَّاس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدًّا، ولما وقع هذا أعظمه النَّاس جدًّا، ولزم أكثر النَّاس بيوتهم، ولما جاء وقت الحج خرجت أُمُّ المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحجِّ، فقيل لها: (إنَّك لو أقمت كان أصلح، لعلَّ هؤلاء القوم يهابونك. فقالت: إنِّ أخشى أن أُشير عليهم برأيي، فينالني منهم من الأذيَّة ما نال أُمَّ حبيبة).
وعلمت السيدة بم*** عثمان، وهي في طريق العودة إلى المدينة، فرجعت إلى مكة، وهي لا تقول شيئًا، حتى نزلت على باب المسجد، وقصدت للحِجر فسترت فيه، واجتمع النَّاس إليها، فقالت: (يا أيها الناس، إنَّ الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا، أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس
الإِرْب
، واستعمال من حدثت سِنُّه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحِمى حماها لهم، وهي أمور قد سُبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحًا لهم، فلمَّ لم يجدوا حجةً ولا عذرًا، خلجواوبادَروا بالعدوان، ونبافعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلُّوا البلد الحرام، وأخذوا
المال الحرام، واستحلُّوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أنَّ الَّذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا، لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب).
هذه هي أوَّل خطب السيدة بعد *** عثمان، وهي تدلُّ على تقديرها لعثمان، وبراءتها من كلِّ ما نُسب إليها من تُم تأليب النَّاس عليه. نعم كانت أحيانًا تُبدي بعض الآراء التي تخالف رأي عثمان رضي الله عنه، وذلك من باب النصيحة، فكانت تنصح باعتبارها أُمًّا للمؤمنين، ممتثلة لقول النَّبي صلَّ الله عليه وسلم: ((الدين
النصيحة))
.
وكلٌّ منهما مجتهد يريد الحقَّ، وأجره يدور ما بين الأجر والأجرين.