رابعًا: خشوعها وقنوتها ورقة قلبها:
كانت رضي الله عنها رقيقة القلب، خاشعة قانتة، لا ترى لنفسها فضلً، ولا تتكئ على قربها من رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، وقد علم عنها هذا السمت الخاشع، كأبيها رضي الله عنهما، وتوافرت الآثار الدالة على ذلك الخشوع القانت، حالً ومقالً، فمما يؤثر عنها قولها: (يا ليتني كنت ورقةً من هذه الشجرة!)
.
وتقف في مصلاها يومًا تردد قوله تبارك وتعالى: (فَمَنَّ ٱللُّهَ عَليَنۡاَ وَوَقىَنٰاَ عَذَابَ ٱلسَّمُومِ)..وتبكي وتطيل، ويمتدُّ بها القيام، وتدعو:(ربِّ مُنَّ عليَّ،وقني عذاب السَّموم).
وكانت كلما ذكرت خروجها للسعي بالإصلاح بين النَّاس يوم الجمل متأولةً، تَأْسف محزونةً، وتتكلَّم بالندم استغفارًا ودمعًا، حتى تبلَّ خمارها رضي الله عنها.
وهذا ابن أختها عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: (والله لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذر، أن لا أكلِّم ابن الزبير أبدًا. فاستشفع ابن الزبير إليها، حين طالت الهجرة،
فقالت: لا والله لا أشفع فيه أبدًا ولا أتحنَّث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير،كلَّم المِسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زُهرة،
وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنَّا لا يحلُّ لها أن تنذر قطيعتي.
فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم. ولا تعلم أنَّ معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلَّمته، وقبِلت منه، ويقولان: إنَّ النَّبي صلَّ الله عليه وسلم نهى عما قد علِمتِ من الهجرة، فإنه: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)).
فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تُذَكِّرهما وتبكي، وتقول: إنِّ نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبلَّ دموعها خمارها)
.
ولا زالت على هذا المنهاج القويم، والخلق الكريم، والصراط المستقيم، حتى لحقت بربِّا رضي الله تعالى عنها.