
29-11-2013, 11:29 PM
|
عضو لامع
|
|
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 29
|
|
أين نحن من نساء السلف؟! (2- ب)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
فسوف تعطينا الآن أسماء درسًا في الصبر، فهي لم تجزَعْ ولم تيئس؛ بل انكبَّت الأم الصالحة الصابرة على تربية أطفالِها الثلاثة، وتنشئتهم على الصلاح، ولم تمضِ فترة طويلة حتى تقدم أبو بكر - رضي الله عنه - خاطبًا لأسماءَ، وذلك بعد وفاة زوجته أمِّ رُومان - رضي الله عنها - ولم يكن لأسماء أن ترفُضَ مثل الصِّدِّيق، وهكذا انتقلت إلى بيت الصديق لتستلهم منه المزيد من نور الخُلُق والإيمان، ولتُضفِي على بيته الحب والوفاء.
وبعد فترةٍ من الزواج المبارك منَّ اللهُ عليهما، فرُزِقت منه بولد وهي بذي الحُلَيفة، وهم يريدون حجة الوداع، فأمرها أبو بكر - رضي الله عنه - أن تغتسل ثم أهلَّ بالحج بعد أن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
ثم شهِدت أسماءُ من الأحداث الجِسام الكثيرَ والكثيرَ، وكان أشدَّها وفاةُ سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي من السماء.
ثم شهدت زوجَها أبا بكر خليفةَ المسلمين وهو يواجِهُ أعضل المشكلات يومئذٍ؛ كقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وبعث جيش أسامة، وكيف وقف كالطَّوْدِ لا يتزحزح ولا يتزعزع، وكيف نصر الله المسلمين بتلك المواقف الإيمانية الجريئة؟
وكانت أسماء تسهر على راحة زوجِها، وتعيش معه بكل مشاعرها حاملةً معها عبء الأمة الكبير، ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ فقد مرِض الخليفةُ الصِّدِّيق، واشتدَّ عليه المرض، وأخذ العرق يتصبَّب من جبهته فأحسَّ بشعور المؤمن الصادق بدنوِّ أجله، فسارع بوصيته، وكان من جملة ما أوصى به أن تُغسِّله زوجتُه أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - وكما عزم عليها أن تُفطِر قائلاً لها: هو أقوى لك.
وشعُرت أسماء بقُرْب الفاجعة، فاسترجعت واستغفرت، وهي لا تميل بنظرها عن وجه زوجها الذي علاه الذبول إلى أن أسلمَ الرُّوح إلى بارئها، فدمعت العين وخشع القلب، ولكنها لم تقل إلا ما يرضي الرب - تبارك وتعالى - فاحتسبت وصبرت، ثم قامت بالمهمَّة التي طلبها منها زوجُها الفقيد؛ حيث كانت محلَّ ثقته، فبدأت بتغسيله وقد أضناها الهم والحزن، فنسيت وصيته الثانية، فسألت مَن حضر من المهاجرين قائلةً: إني صائمةٌ وهذا يومٌ شديد البرد، فهل عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا، وفي آخر النهار وبعد أن وُورِي جثمان الصديق تذكَّرت أسماء وصية زوجها الثانية، فقد عزم عليها أن تفطر، فماذا عساها أن تفعل الآن؟ فالوقت آخر النهار وما هي إلا فترة وجيزة وتغيب الشمس ويفطر الصائم، فهل تستجيب أسماء لعزيمة زوجها؟ أم تنتظر لحظات؟!
إن الوفاء للزوج أبَى عليها أن ترُدَّ عزيمة زوجها الراحل فدَعَت بماء وشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثًا.
ولزمت أسماء بيتها ترعى أولادها من جعفر ومن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وتحدب عليهم سائلةً الله أن يُصلِحَهم، ويصلح بهم، ويجعلهم للمتقين إمامًا، وهذا غاية ما كانت ترجوه من دنياها غير عالمة بما يُفاجِئُها من القدر المكنون في علم الله، فها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخو جعفر الطيَّار ذي الجناحين يتقدَّم لأسماء طالبًا الزواج منها وفاءً لأخيه الحبيب جعفر ولصاحبه الصديق - رضي الله عنهما - وبعد تردُّد وتقليبٍ للأمور من كل جوانبِها قرَّرت الموافقة على الزواج من علي - رضي الله عنه - لتتيحَ له بذلك الفرصة لمساعدتها في رعاية أولاد أخيه جعفر.
وانتقلت معه إلى بيته بعد وفاة فاطمه الزهراء - رضي الله عنها - فكانت له خيرَ زوجة صالحة، وكان لها خير زوج في حسن المعاشرة، وما زالت أسماء ترتفع وتسمو في عين علي - رضي الله عنه - حتى أصبح يُردِّد في كل مكان: "كذَّبتكم من النساء الحارقة، فما ثبتت منهن امرأة إلا أسماء بنت عميس".
ويشاهد علي - رضي الله عنه - منظرًا غريبًا، فرأى ولدًا لأخيه جعفر يتشاجر مع محمد بن أبي بكر، وكل منهما يتفاخر على الآخر، ويقول: أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك، ولم يدرِ علي ماذا يقول لهما؟! وكيف يصلح بينهما بحيث يرضي عواطفَهما معًا؟
فما كان منه إلا أن استدعى أمَّهما أسماء، وقال لها: اقضي بينهما، وبفكر حاضر وحكمة بالغة قالت: ما رأيتُ شابًّا من العرب خيرًا من جعفر، ولا رأيت كهلاً خيرًا من أبي بكر، وهكذا انتهت المشاجرة وعاد الصغيران إلى التعانق واللعب، ولكن عليًّا المُعجَب بحسن القضاء بين الأولاد نظر في وجه زوجته العاقلة قائلاً: ما تركتِلنا شيئًا يا أسماء!
وبذكاء حادٍّ وشجاعة نادرة وأدب جم قالت: إن ثلاثةً أنت أخسُّهم خيارًا! ولم يستغرب علي - رضي الله عنه - مقالةَ زوجته العاقلة، فقال لها بكل شهامة ومروءة نادرة: لو قلتِ غير الذي قلتِ لمقتُّكِ!
واختار المسلمون عليًّا - رضي الله عنه - خليفةً بعد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأصبحت أسماء للمرة الثانية زوجًا لأمير المؤمنين رابعِ الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت أسماءُ - رضي الله عنه - على مستوى المسؤولية كزوجةٍ لخليفة المسلمين.
أما الأحداث العظام، فدفعت بولدَيْها عبدالله بن جعفر ومحمد بن أبي بكر إلى جانب أبيهما لنصرة الحق، ثم ما لبثت طويلاً حتى فُجِعت بولدِها محمد بن أبي بكر، وكان أثر هذا المصاب عليها عظيمًا، ولكن أسماء المؤمنة لا يمكن لها أن تخالف تعاليم الإسلام، فما كان منها إلا أن تجلَّدت واستعانت بالصبر والصلاة على ما ألَمَّ بها، وما زالت تكتمُ غيظَها حتى نزف ثدياها دمًا!
وما كاد العام ينتهي حتى ثقُلَت وأحسَّت بالوهن يسري في جسمها سريعًا، ثم فارقت الحياة وبقيت رمزًا على مدار التاريخ بعد أن ضربت لنا أعظم النماذج في الحكمة والصبر على الشدائد، فهل نحن على الدرب سائرون؟!
|