نقد القول .. وتقدير القائل
       
      بسم الله الرحمن الرحيم
   
     من الأقوال المأثورة والمؤثرة      ، تلك الحكمة القائلة : (( العقول العظيمة      تُناقش الأفكار ، والعقول المتوسطة تُناقش الأحداث ، والعقول التافهة      تُناقش الأشخاص )) . جواهر العقول د. وصال حمقة (ص182)
    
    سأجعل منها منطلقاً لفكرتي التي أريد أن أتحدث عنها في هذا المقال ، ومحورها :      إن المفكر الناصح أو المصلح الصادق مثل الطبيب يهتم بمحاربة " المرض " لا      محاربة " المريض " لأنه يحاول إنقاذه وعلاجه لا أن ي***ه ، لهذا أرى أن      هناك فرقاً بين نقدنا للفكرة واحترامنا للمفكر ، أو بمعنى آخر يجب أن نفصل بين      نقدنا للقول ورفضنا له ، وبين تقديرنا لشخص القائل من إخواننا وأصدقائنا      وأقاربنا .
    
         لا تقل لطفلك : إني أكرهك !
    ولكي تتضح فكرة الفصل ، أورد هذا المثال من بعض كتب التربية التي تؤكد على      حقيقة وهي : عندما يقع طفلك في خطأ ، فلا تقل له : " إني أكرهك " فهذه عبارة      مدمرة للطفل تسلبه أهم شيء وهو الأمن النفسي المتمثل في حب الوالدين ، ولكن      خاطبه بقولك : " إني أكره تصرفك الفلاني " فيكون حديثك وتوجيهك محدداً مقيداً      منصباً على قوله الخاطئ أو فعله وليس على شخصية الطفل نفسه ، وهذا قريب الشبه      جدا من الفكرة التي أطرحها هنا من ضرورة الفصل والتمييز بين رفضنا للقول ، مع      تقديرنا للقائل .
    
    لماذا نفصل بين القول والقائل ؟
    لأن الأفكار ليست هي المفكر بالضرورة ، والقول ليس هو القائل حتماً فكثيراً ما      تكون الأفكار السيئة والأقوال الخاطئة هي مجرد آراء قابلة للتغيير والتفنيد ،      فالشخص قد يقول فكرة ثم يتراجع أو يتخلى عنها في قادم الأيام لاعتبارات موضوعية      ، أو لأن التجربة الواقعية أمدته بخبرة أكبر ورؤية أوضح ، فأصبح رفضه لها      ضرورياً ، ثم لننظر إلى أنفسنا وتاريخنا مع الأفكار .
    
    ألم نندفع في ماضينا البعيد أو القريب نحو بعض الأفكار التي ظهر لنا فيما بعد      عدم جدواها أو استبان لنا ضعفها ؟
    عندما كنا نحمل تلك الأفكار الخاطئة ، ألم نكن نحب أن يتعامل معنا المخالفون      لنا بعزل أفكارنا السلبية عن أشخاصنا التي تتوق إلى الاحترام والتقدير      والاهتمام بها ؟
    ألسنا نحمل وقتها الكثير من الأفكار الجيدة والصحيحة ؟
    هل من العدل والإنصاف أن نُبغض أو يُقلل من ذكائنا وصدقنا بسبب فكرة أو أفكار      محدودة ويتجاهل المخالفون إيجابياتنا الأخرى ؟
    ألا يجب أن نعامل الناس الذي نختلف معهم كما نحب أن يعاملوننا به لو كنا نمر      بالظروف نفسها التي يمرون بها الآن ؟ 
    
         لا تلعنوه .. !
    ولعل مما يصلح شاهداً على تأصيل فكرة الفصل بين " المرض " و " المريض " ، ما      ورد في السنة النبوية من لعن المعصية مطلقاً ومنعه عليه الصلاة والسلام للعن      مرتكبها بشخصه وعينه .
    
    ففي الحديث الثابت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:     " لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ      شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا،      وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا "      فهنا لعن عليه الصلاة والسلام شارب الخمر مطلقاً ، وهذا بلا شك ذم وتجريم لهذا      الفعل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح آخر لما أوتي برجل شرب الخمر      فأمر بجلده الحد ، قال أحد الصحابة رضوان الله عليهم : لعنه الله ما أكثر ما      يؤتى به ، فقال عليه الصلاة والسلام :      " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " ، فنهى عن لعن الشخص بعينه مع كونه      ارتكب كبيرة ملعون مقترفها .
    
    وقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا الفرق القائم على الفصل والتمييز بين مشروعية      لعن الفعل بصورة عامة ، والنهي عن لعن الفاعل المعين ، فقال في منهاج السنة      (5/101) : (فنهى عن لعن هذا المعين المدمن      الذي يشرب الخمر ، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ، مع لعنه شارب الخمر عموماً ،      فعُلم الفرق بين العام المطلق ، والخاص المعين ) .
    
    اكرهوا المعصية وارحموا العاصي !
    
    وفي تقديري أن الحكمة من عدم توجيه عبارات جارحة للشخص بعينه مع اقترافه لكبيرة      من الكبائر يظهر لنا في حديث أبي هريرة عند البخاري (6781) لما أتي بسكران ،      فأقيم عليه الحد ، فقَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ      اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :      " لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ " . وهنا تتجلى      رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العصاة والمخطئين ، وإن شئنا      أن نتحدث بلغة العصر فيمكن أن نقول :
    حافظَ عليه الصلاة والسلام على كرامة الإنسان المخطئ واحترم فيه جوانب إيجابية      مهمة كحبه لله ورسوله ، ولم يُهمل ذلك عند نظرته له مع كون الشخص قد ارتكب      كبيرة توجب اللعن ، وقد نبه عليه الصلاة والسلام أن إهانة العاصي لفظياً قد      تفتح أبواباً من الشر تتسرب إلى وجدانه فيتعمق الانحراف في نفسه أكثر وأكثر ،      وخوفاً من ذلك جاء التوجيه النبوي بألا نكون عوناً للشيطان على إخواننا           
    
    لا يلزم من تكفير القول أن يُكفر القائل !
    
    وكشاهد تأصيلي آخر على تبني فكرة " الفصل " بين حكم القول وحكم القائل ؛ يذهب      المحققون من أهل العلم إلى أنه : لا ينبغي يُطلق على قول بأنه كفر ، أن يُحكم      على كل من قال به من المسلمين بأنه كافر ، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع      في حقه ، وفي تقرير ذلك يقول أبو العباس ابن تيمية : (حقيقة الأمر فى ذلك : أن      القول قد يكون كفرا ، فيطلق القول بتكفير صاحبه ، ويقال من قال : كذا فهو كافر      ، لكن      الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر      تاركها ) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/345)
    
    ويقول أيضاً : (المقصود هنا أن     مذاهب      الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ) . مجموع فتاواه      (23/348) : يقصد بالنوع أي القول ، ويقصد بالعين أي الشخص القائل بعينه .
    
    ولهذا ذهب علماء السلف إلى أن قول : القرآن مخلوق يعد كفراً ، ولكنهم لم يكفروا      كل من نطق به وتبناه بعينه وشخصه ، فالإمام أحمد بن حنبل يحكم بأن مقولة :      القرآن مخلوق تعد كفراً ، ولكنه لم يكفر الخليفة المأمون وولاة الأمر من بعده      ممن أظهروا القول بتلك المقولات ، مع أنهم قد سجنوه وعذبوه وجلدوه ، فهل هذا      يعد تناقضاً منه رحمه الله كما قد يتوهم البعض ؟
    
    الجواب : لا ؛ لأن الإمام رحمه الله يرى أن تكفير الشخص المعين المحدد كالمأمون      يتطلب تحقق شروط وانتفاء موانع ، وقد تتخلف بعض الشروط فلا يصبح تكفير الشخص      المعين وجيهاً ، وعندما تتوفر كل شروط تكفير المعين ، ينظر العلماء في موانع      التكفير أي أشياء مثل الإكراه أو الجهل أو التأويل الخاطئ ، فيعذرون المعين      بذلك مع تفصيلات ليس هذا محلها .
    
    وفي ذلك قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر مذهب الإمام أحمد في      هذه المسألة: ( ما كان – يعني أحمد بن حنبل - يُكفر أعيانهم ، فإن الذي يدعو      إلى القول أعظم من الذي يقول به ، والذى يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ،      والذى يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ،     ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور      يقولون بقول الجهمية : إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى فى الآخرة وغير      ذلك ويدعون الناس إلى ذلك .. فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر      لهم ؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ، ولا جاحدون لما جاء به ،     ولكن تأولوا فأخطأوا ، وقلدوا من قال      لهم ذلك ) . مجموع فتاواه (23/348-349)
    
    هل يوجد سمين بلا مرض ؟
    
    ولكي أقرب المسألة أكثر لغير المتخصصين أقول : كلنا نعلم الآن مقولة الأطباء :      البدانة وزيادة الوزن سبب رئيس لأمراض القلب الخطيرة المميتة ، ولكن هل      بالضرورة كل شخص " سمين " يكون مصاباً بتلك الأمراض ، هناك أشخاص كثر من      البدناء لم يصابوا بتلك الأمراض القاتلة ، وذلك يعود لعدم وجود أسباب تحقق      المرض صحياً ، أو لوجود موانع صحية كثيرة قائمة لدى أولئك الأشخاص تجعل أمراض      القلب لا تؤثر فيهم .
    
    وبهذا تكون المقولة : البدانة قاتلة تشبه – نوعاً ما - مقولة خلق القرآن كفر ..      ولكن لا يلزم أن كل بدين هو بالضرورة الحتمية مريض بمرض مميت لعدم توفر بعض      الأسباب أو لوجود موانع تحول دون ذلك ، وهذا ليس ببعيد من قول العلماء : لا      يكفر المعين إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع .
    
    إذن هناك فصل بين القول والقائل .
    
    وتفريق بين إطلاق الحكم نظرياً وتطبيقه على شخص بعينه تحديداً .
    
    نناقش أفكاراً لا أشخاصاً !      
    
    وبالنظر إلى ما تقدم أقول : إني عندما أناقش أي قول فإن طريقتي في ذلك أن أنخرط      بصورة كاملة في تصوره والقيام بفحصه نقدياً ؛ لأعرف مزاياه وعيوبه ، وأسبر      أغواره مكتشفاً محاسنة ومساوئه ، وأعرضه على واقع الحياة العملية لأشاهده يتحرك      صعوداً ونزولاً وفي كل الاتجاهات ، فإن توصلت إلى قناعة كافية بصلاحيته سأقبله      مستنداً على الحجج والبراهين ، وإن رفضته لمصادمته للمبادئ الفكرية المنسجمة مع      القيم ، أو لقصور في أدلته أو غلبة جانب السلبيات فيه ، فعلي أن أحدد طبيعة      رفضي ، فإن كان القول ينهض على أساس واه فهو كالمرض المميت للفكر أو كالعدو      المحارب لسلامة تصورات العقل وأحكامه ، وهنا سأقاتله بكل ضراوة وبلا أدنى هوادة      ، وهذا ما أفعله حين أناقش بعض الأفكار كمبدأ النسبية المطلقة الداعي إلى نزع      القداسة عن كل شيء مقدس .
    
    لكن المحرج حقاً هو أن بعض الأصدقاء أوالمقربين ممن صرحوا بذلك القول أو كتبوه      قد يسبق إليهم سوء الفهم ، فيظنون أن هجومي على القول وبنائه الفكري ، كان      يستهدف الانتقاص من أشخاصهم ، مع أن مناقشتي للفكرة ليست في حضورهم ولم أتعرض      لأسمائهم من قريب أو بعيد ، والفكرة نفسها شائعة وتتردد بكثرة ، ثم هم يعلمون      أني أحتفظ لهم بتقدير شخصي بسبب ما يتصفون به من خصال مميزة ولأنهم يحملون      العديد من القيم الإيجابية التي تجبرني على احترامهم ومودتهم .
    
    كل ما في الأمر أني أناقش الأفكار على فرضية : أني قد أقبلها بعد الفحص      والمناقشة ، لهذا فواقع الحال : هذه الحماسة التي تشعرون بها في مقالاتي أحيانا      لا تفسير لها إلا      لأني أناقش نفسي ، وأحاور عقلي ، وأتجادل مع عالم أفكاري لا أشخاص أصدقائي .
    
    والطريف في الأمر أن أولئك الأصدقاء كتبوا أشياء أو قالوها ضد أفكار أنافح عنها      ، ومع ذلك لم أغضب منهم أبداً ، فلا يتطرق إلى نفسي أني المقصود لذاتي ، ولا      أقوم بعمليات إسقاط نفسي ، وأقول : هذه إهانة موجهة لي !
    قليلاً من الإنصاف أيها الأصدقاء .. !
    قليلاً من العقلانية أيها الأصفياء .. !
    
    الحرب على المرض لا المريض !
    لذلك أقول لنفسي دائماً يا أيها الفقير إلى رحمة خالقك :
    إكره الخطأ ولكن لا تكره المخطئ .
    أبغض بكل قلبك المعصية ولكن ارحم العاصي .
    إنتقد القول ولكن احترم القائل .
    أرفض الفكرة ولا ترفض كل ما عند المفكر .
    
    لن أفتر عن تذكير نفسي دائماً :
    إن مهمة الطبيب أن يقضي على " المرض " لا على " المريض " . فهدفي أن أعالج      جزئية المرض فقط لأنقذ الشخص ككل ، فإن لم أميز بين المريض ومرضه ، فسأ***      المريض نفسه وسأقضي على كل شيء جهلاً وبغياً ، وبهذا تتحول المصلحة الخاصة إلى      مفسدة عامة ، وينقلب النفع الجزئي الذي أردته إلى ضرر كلي لطالما تحاشيته ،      وهذا ما لا أريده بكل تأكيد .