علمها بالقرآن وعلومه
تُعَدُّ أُمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها من كبار مفسِّي عصرها؛ ساعدها على
ذلك سماعها للقرآن الكريم منذ نعومة أظافرها، قالت رضي الله عنها: لقد أُنزِل على محمدٍ صلَّ الله عليه وسلم بمكة، وإني لجاريةٌ ألعب: ﴿بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَٰى أَمَرُّ﴾(القمر:46 )
، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.
وزواجها وعيشها في كنف رسول الله صلَّ الله عليه وسلم جعلها تظفر بحضور نزول الكثير من القرآن الكريم؛ إذ عاشت تسع سنوات في مهبط الوحي، ولم يكن ينزل الوحي على رسول الله صلَّ الله عليه وسلم وهو في لحاف امرأة من نسائه غيرها.
وقد نزلت آيات كثيرة بسببها؛ مثل آيات الإفك، والتيمم، ورأت كيف ينزل
عليه جبريل عليه السلام بالوحي، حتى إنها وصفت حال النَّبي صلَّ الله عليه
وسلم حين نزوله، فقالت: لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيَفْصم عنهوإن جبينه ليتفَصَّد عرقًا
ولم تكن عائشة رضي الله عنها تكتفي بمجرد الحفظ، وإنَّما كانت إذا غمُض عليها شيء لا تتردَّد في طرحه على الرسول صلَّ الله عليه وسلم؛ لتتعرَّف على معاني الآيات القرآنية، ومراد الله عزَّ وجلَّ منها، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:
سألت رسول الله صلَّ الله عليه وسلم عن هذه الآية:﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وقَّلوُبُهُم
وجلَةَ)(المؤمنون:60) قالت عائشة: أهُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصِّدِّيق، ولكنَّهم الذين يصومون ويُصلُّون ويتصدَّقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم (أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلَخۡيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ)(المؤمنون: 61)
وإذا استشكلت شيئًا من شأن الوحي بادرت بسؤال النَّبي صلَّ الله عليه وسلم؛ ليرفع عنها الإشكال، وهذا ما جعل عائشة رضي الله عنها على معرفة تامة بالقرآن الكريم، وأسباب نزوله، وموضوعاته، وقضاياه.
يقول أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما رأيت أحدًا أعلم بسُنن رسول الله صلَّ الله عليه وسلم، ولا أفقه في رأيٍ إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآيةٍ فيما نزلت، ولا فريضةٍ، من عائشة ولذلك نراها ترجع إلى كتاب الله العزيز قبل كلِّ شيء في حلِّ كلِّ مشكلة صغيرة
أو كبيرة، والكشف عن عقدة تفسيرية، أو ردِّ سؤال موجَّه إليها في هذا الصدد، فهو المرجع الأول لها في كلِّ الأمور، وإنها لم تكن تراجع القرآن في قضايا العقائد والفقه والأحكام الشرعية فحسب، بل في كلِّ الأمور، حتى في موضوع سيرة النبَّي صلَّ الله عليه وسلم وبيان أخلاقه وسلوكه، وكذلك في المسائل ذات الصلة بالتاريخ والأخبار، وقد جاءها ذات مرة ناس يسألونها عن خُلُقِ الرسول صلَّ الله عليه وسلم، قالت:
ألست تقرأ القرآن؟ فإنَّ خُلُقَ رسول الله صلَّ الله عليه وسلم كان القرآن. قال: حدِّثيني عن قيام الليل. قالت: ألست تقرأ يا أيُّا المزمِّل؟. وتلفت -رضي الله عنها- النظر إلى الفرق بين السور المكية والمدنية، وموضوعات كلٍّ منهما، فبينما تهتمُّ السور المكية بأمور العقيدة، نجد السور المدنية تهتمُّ أكثر بالأحكام والحلال والحرام، تقول عائشة رضي الله عنها: إنَّما نزل أوَّل ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوَّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم -وإني لجارية ( بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَٰى وَأَمَرُّ)(القمر:46)
وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده .
وسورة البقرة والنساء التي تقول عائشة رضي الله عنها إنهما نزلتا في المدينة، تتناولان موضوع المناظرات مع اليهود؛ لأنَّم كانوا في المدينة، وبما أن الدعوة الإسلامية تكون قد اكتملت في المدينة المنورة، نزلت فيها الأحكام، وقلَّت الفواصل، بسبب استخدام أسلوب الأحكام والقوانين فيهما، وتقول رضي الله عنها إنَّ
سورة القمر نزلت بمكة، وفيها ذكر موضوع القيامة؛ لأن تلك الفترة بداية الإسلام، وفيها الإنكار على المشركين، والرد عليهم؛ لأنَّ المواجهة كانت معهم هناك، واستخدمت فيها الفواصل الصغيرة؛ لأنَّا تؤدي إلى تأثير عميق في الأسلوب والبيان.