4- مهمة الدين الخلقية
الدين والحكومات - المحرمات الجنـسية - تأخر الدين - التحول العلماني
الدين دعامة الأخلاق بوسيلتين أساسيتين هما الأساطير والمحرمات ؛ فالأساطير هي التي تخلق العقيدة فيما وراء الطبيعة ، ثم يكون من شأن هذه العقيدة أن تضمن بقاء أنواع من السلوك يريد المجتمع ) أو يريد الكهنة ( بقاءها ؛ فما يرجوه الفرد في السماء من ثواب وما يخشاه لديها من عقاب يضطره اضطراراً أن يذعن للقيود التي يفرضها عليه سادته أو جماعته ؛ فالإنسان ليس بطبعه مطيعاً رقيقاً طاهراً وليس شيء كالخوف من الآلهة - وذلك بعد القهر الذي خضع له الفرد قديماً فأنشأ في نفسه الضمير - أخضع الإنسان لهذه الفضائل التي لا تتفق وطبيعته إخضاعها مطرداً صامتاً ؛ فأنظمة الملكية والزواج تتوقف إلى حد ما على العقوبات الدينية وهي تميل إلى فقدان قوتها في العصور التي يسود فيها الشك الديني ؛ بل الحكومة نفسها التي هي أهم أداة اجتماعية اصطنعها الإنسان ، وأبعد أداة عن طبيعة الإنسان ، كثيرا ما استعانت بالتقوى وبالكاهن ، كما فعل أذكياء الهراطقة مثل نابليون وموسوليني اللذين لم يلبثا أن كشفا عن هذه الحقيقة ؛ ومن هنا كان ثمة "ميل إلى قيام دولة دينية كلما نشأت الدساتير"؛ فلئن كانت قوة الرئيس البدائي تستمد الزيادة من السحر والعرافة ، فإن حكومتنا نفسها تستمد بعض القوة من اعترافها السنوي "بإله المهاجرين" .
وأطلق أهل "بولنيزيا" كلمة "تابو" ( ومعناها التحريم ) على ما يحرمه الدين ؛ فلما تقدمت المجتمعات البدائية بعض الشيء ، اصطنعت هذه الحُرُمات الدينية مكانة هي التي أصبحت فيظل المدنية مكانة القوانين ؛ وكانت صيغة التحريم عادةً سالبة : فبعض الأفعال وبعض الأشياء أعلن عنها أنها "مقدسة" أو "نجـسة" وكان اللفظان في الواقع يعنيان نذيراً واحداً ، وهو أن تلك الأفعال أو الأشياء لا يجوز لمسها ؛ "فتابوت العهد" مثلاً كان محرماً ، ويُروى عن "عُزّى" أنه سقط صعقاً عند لمَسِه لمنعِه من السقوط ؛ ويؤكد لنا "ديودورس" عن المصريين القدماء أنهم أكل بعضهم بعضاً إبان المجاعة ، فذلك آثر عندهم من الاعتداء على تحريم أكل الحيوان الذي اتخذته القبيلة طوطماً لها ؛ وإنك لتجد في معظم الجماعات البدائية عدداً كبيرا جداً من هذه المحرمات ، فكلمات معينة وأسماء معينة ما كان لها قط أن تُنطق ، وأيام معينة وفصول معينة كانت من المحرمات بمعنى أن ال*** لم يكن يؤذن به خلالها ؛ وكل معرفة البدائيين بحقائق الغذاء وبعض جهلها بتلك الحقائق ، كان سبيلها إليهم تحريمات معينة أقامها الناس على ألوان الطعام ، فهُم لم يلقنوا مبادئ الصحة عن طريق العلم أو عن طريق الطب العَلماني بقدر ما لقنوها عن طريق الدين .
وكانت المرأة أهم ما اتجه إليه التحريم عند البدائيين فآلاف الخرافات نشأت عن المرأة لتجعلها ، آناً بعد آن ، مُحرمَة اللمس ، خطرةً ، "نجـسة" ؛ إن منشئ الأساطير في أنحاء العالم لم يكونوا أزواجاً موفقين ، لأنهم متفقون جميعاً على أن المرأة أساس الشر كله ، فلم يقتصر هذا الرأي على الديانتين اليهودية والمسيحية ، بل جاوزهما إلى مئات من الأساطير الوثنية ؛ وأدق التحريمات البدائية كان خاصاً بالمرأة إبان حيضها ، فكل من لَمسها أو كل ما لمسها في هذه الفترة فَقدَ فضيلته إن كان إنساناً ، وضاعت فائدته إن كان غير ذلك ؛ فحرمَّ "الماكوزى" Macusi من أهل غيانة البريطانية على نسائهم أن يستحممن إبان حيضهن خشية أن يُسَممن الماء ، كما حرموا عليهن الذهاب إلى الغابة في مثل هذه الفترات ، حتى لا تعضَّهن الثعابين غراماً بهن ؛ حتى الولادة كانت عندهم نجسة ، وكان على الأم بعدها أن تطهر نفسها في كثير جداً من الطقوس الدينية ؛ والعلاقة الجنـسية حرام في معظم القبائل البدائية ، ليس فقط إبان فترات الحيض ، بل كذلك أثناء الحمل والرضاعة ، ولعل هذه التحريمات قد أنشأها النساء أنفسهن بما لهن من إدراك سليم وما يبغين لأنفسهن من وقاية وراحة ، لكن الأصول سرعان ما تُنسى ، وتنظر المرأة فإذا هي "مشوبة" وإذا هي "نجـسة" ؛ وانتهى بها الأمر إلى أن توافق الرجل على وجهة نظره ، وراحت تشعر بالعار في حيضها ، بل في حملها ؛ ومن التحريمات وأمثالها نشأ الحياء ونشأ الشعور بالخطيئة ، والنظر إلى العلاقة الجنـسية على أنها نجـاسة ، وكذلك نشأ التقشف وعزوبة الرهبان ونشأ إخضاع النساء .
ليس الدين أساس الأخلاق ، لكنه عون لها ، فقد يمكن تصور الأخلاق بغير دين ، وليس الأمر النادر أن تتطور الأخلاق في طريقها إلى التقدم بينما يبقى الدين لا يأبه لها ، أو يقاومها مقاومة عنيدة ؛ ففي الجماعات الأولى ، وفي بعض الجماعات المتأخرة ، كانت الأخلاق فيما يظهر على أتم استقلال عن الدين ، وفي مثل هذه الحالة لا يُعنى الدين بقواعد السلوك ، بل يُعنى بالسحر والطقوس وتقديم القرابين ، والرجل الطيب عندئذ هو من يؤدي محافل الدين أداء المطيع ، ويمدها بماله في ولاء وإخلاص ؛ والدين بصفة عامة لا يَرعى الخير المطلق ) إذ ليس هناك خير مطلق (، بل يرعى معايير السلوك التي وطدت نفسها بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية ؛ وهو كالقانون يلتفت إلى الماضي ليستمد منه أحكامه ، وهو قمين أن يتخلف في الطريق كلما تغيرت الظروف وتغيرت معها الأخلاق ؛ فقد تعلم الإغريق مع الزمن أن يمقتوا مضاجعة المحارم ، مع أن أساطيرهم كانت ما تزال تمجد الآلهة الذين يفعلون ذلك ، والمسيحيون يصطنعون نظام الزوجة الواحدة بينما إنجيلهم يُحلل تعدد الزوجات ؛ وامتنع الرق امتناعاً تاماً بينما المتدينون كانوا يدافعون عن قيامه بشواهد من الإنجيل لا تُنقض ؛ وفي يومنا هذا نرى الكنيسة تقاتل قتال الأبطال لتقيم تشريعاً خلقياً قضت عليه الثورة الصناعية قضاء مبرماً لا شك فيه ؛ فالعوامل الأرضية هي التي تسود آخر الأمر، والأخلاق توائم بين نفسها وبين المستحدثات الاقتصادية شيئاً فشيئاً ، ثم يتحرك الدين كارهاً فيوفق بين نفسه وبين الأخلاق الجديدة ؛ إن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يحافظ على القيم القائمة ، أكثر مما يخلق قيماً جديدة .
ومن هنا كان من علامات المراحل العليا في كل مدنية أن يحدث التجاذب بين الدين والمجتمع ؛ يبدأ الدين بمَدَد من السحر يقدمه للناس في حيرتهم وارتباكهم ؛ ثم يصعد إلى قمة مجده بمَدَد من وحدة الأخلاق والعقيدة يقدمها للناس فتجيء هذه الوحدة معُينة أكبر العون للسياسة والفن ؛ ثم ينتهي بقتال يفنى فيه فناء المنتحر دفاعاً عن قضية الماضي الخاسرة ؛ ذلك لأنه كلما تقدمت المعرفة أو تغيرت تغيراً متصلاً ، اصطدمت بالأساطير واللاهوت اللذين يتغيران تغيراً بطيئاً بطئاً لا يُحتمَل ؛ وعندئذ يشعر الناس برقابة رجال الدين على الفنون والآداب كأنها أغلال ثقيلة وحائل ذميم ، ويتخذ التاريخ الفكري في مثل هذه المرحلة صيغة النزاع بين العلم والدين" ؛ والأنظمة التي تبدأ في أيدي رجال الدين ، مثل القانون والعقاب ، والتربية والأخلاق ، والزواج والطلاق ، تميل نحو الإفلات من رقابة الدين لتصبح أنظمة دنيوية ، حتى ليعدها الدين أحياناً خارجة عليه ، والطبقات المستنيرة تطرح وراء ظهورها اللاهوت القديم ، ثم - بعد شيء من التردد - تطرح معه التشريع الخلقي ؛ عندئذ تصبح الفلسفة والأدب مناهضة لرجال الدين ، وترتفع حركة التحرير إلى عبادة العقل عبادة المتفاني ، تكبو فيما يشبه الشلل الذي تسببّه خيبةُ الأمل إزاء كل عقيدة وكل فكرة ؛ ويتدهور السلوك الإنساني إذا ما سُلِبَ دعائِمَه الدينيةَ ، فينقلب ضرباً من الفوضى الأبيقورية ؛ بل إن الحياة نفسها ، وقد حَرَمتها ما فيها من إيمان يبعث العزاء في النفوس ، تصبح عبئاً ثقيلا للفقير الشاعر بفقره ، وللغني الذي مَلَّ غناه آن معاً ، وفي النهاية ينحدر المجتمع وتنحدر معه عقيدته الدينية نحو السقوط معاً في ميتة واحدة كأنهما الجسد والروح ، على أنه سرعان ما تنشأ أسطورة أخرى بين الناس إذ هم ينوءون تحت هذا العبء الفادح، أسطورة تَصبّ الأمل الإنساني في قالب جديد ، وتمد الجهد الإنساني بحماسة جديدة، ثم تبنى مدنية جديدة بعد أن تنقضي قرون في حالة من الفوضى .