
05-01-2014, 10:55 AM
|
 |
رئيس مجلس الادارة
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
|
|
- اخناتون -
يمكن أن نعتبر هذا الملك المصرى واضع نواة أسمى ادراك للفكر البشرى : إله واحد ، عالم واحد – توافق البشر .
و كان الاسم الحقيقى لهذا الملك الفيلسوف ، الذى ظهر حوالى ألف و أربعمائة عام قبل الميلاد : امنحتب الرابع . ثم اتخذ لنفسه اسم اخناتون الذى معناه " مكرس لله " . و بالرغم من أنه لم يتعد ثلاثين عاما عند وفاته ، فقد خلف وراءه ميثاقا للحكمة يصلح لكل العصور .
لقد تأثر بالفلاسفة المصريين الذين سبقوه ، كما تأثر " بكتاب طيبة عن الموتى " ، و كان هذا الكتاب نوعا من " الاعتراف السلبى " الذى كان من المفروض أن تتلوه أرواح الموتى فى يوم حشرهم ، و كان إقرارا منهم بأنهم قد أمسكوا عن مخالفة وصايا الله : لك المجد أيها الاله العظيم ، إله الحق و العدل ، لقد استدعيت لأقف أمامك ، ياسيدى ، حتى أرى بهاءك و أقدم حسابى ... لم أقم بإيذاء أى انسان ، و لم أظلم الفقراء ... و لم أكلف نفسا عملا فوق طاقتها ... لم أهمل واجباتى ، كما لم أرتكب منكرا يغضب الله ... لم أمنع عن الجياع طعاما ، لم أسبب لأحد ألما أو أسل له دمعا ... لم أغش فى مكيال أو ميزان ، و لم أحرم الرضع لبنهم ... و لم أغتصب شيئا يخص إنسانا أو يتعلق بالله ... إنى طاهر ، طاهر ، طاهر . "
و قد كان هذا الاقرار عن الخير – أو قل – نفى الشر ، مادة للسخرية عند زمرة الكهنة الفاسقين . فالكهنة – كما هى القاعدة – كانوا متمسكين بمبدأ تعدد الآلهة بدلا من الاله الواحد . و كان همهم المحصور فى بيع التمائم و التعاويذ ( و كلما ازدادت الآلهة ، ازدادت التمائم ) أكثر منه فى تعليم الفضيلة . و من تعاليمهم لأتباعهم أنه إذا نسى المرء أن يتلوا إقراره و اكتفى بعرض التمائم السحرية التى اشتراها من الكهنة ، فإن الآلهة تغفر له ذنوبه .
و هكذا انحطت المبادئ الخلقية فى مصر و تحولت الى طقوس من الشعوذة . و لذا كان هدف اخناتون أن يضع حدا لهذا الفساد . فبدأ ثورة دينية أخلاقية ، و لو أن هذا العمل قصر أجله فمات فى سن مبكرة . فقد كان شهيد الحق .
و كان هذا الحق ، كما ارتآه إخناتون ، يصور الها واحدا أعظم ، تطل سماؤه حانية من عل فوق جسم الأرض .
" من هذا العناق المقدس تخلق كل الأشياء بجسم يتكون من طين أرضى و روح أساسها نار سماوية " . و قد أعلن اخناتون أن هذه النار التى لا تنطفئ لا تحل فى المخلوقات البشرية فحسب ، و إنما فى كل مايخلق من أشياء – فى النخلة التى تمدنا بظلها الظليل ، و النهر الذى يروى سهلنا ، و عين الماء التى تطفئ ظمأنا ، و الزهرة تعبق الجو برائحتها الزكية و تدخل البهجة الى قلوبنا بجمالها ، و حتى البصلة الوضيعه التى تجعل لمأدبة الحياة طعما شهيا .
و ما إيمان اخناتون بقوة علوية واحدة إلا أول تعبير رسمى عن التوحيد فى التاريخ . و لكن فكرة وجود الإله فى كل شئ تجعل فلسفة اخناتون أقرب – نوعا ما – الى المذهب الحلولى ( ألوهية الكون ) منها الى مذب التوحيد –.
و قد عبر الملك المصرى عن فلسفته الدينية فى قصيدة شعرية ، و هى أحد أناشيد العالم السامية :
أيها الاله الحى ، يا مبدع الحياة
إشراقك جميل فى أفق السماء
لقد خلقت كل الأشياء و تسير كل شئ حسب مشيئتك
إنك تربط جميع الأقطار و الأمم برباط محبتك
* * *
تضئ الأرض عندما ينبزغ نور فجرك
فتصحو الأرض من نومها مبتهجة
و ترفع جميع المخلوقات أصواتها
بأنشودة العبادة لك يامصدر النور و الضياء
كل الأشياء الحية على الأرض و فى الجو و البحر
تمتلئ جوانبها بلهب مجدك
أنت خالق النبات فى الأرض
و البذور فى الأرحام
أنت قد غرستها و أخرجتها الى الحياة
عندما يتحرك جنين الطير فى بيضته
تمنحه الأنفاس ليكسر قشرتها
و يخرج الى ضوء الحياة
كل شئ حى و أنت حياة العالم
* * *
كم من عجائب تصنعها أيها السيد
الإله الواحد الحى لجميع الكون
أنت الأب المحب للناس جميعا
فى مصر و سوريا و جميع أقطار الأرض "
و هنا نجد أول شعاع للأخوة العالمية التى تضم أعضاء أسرة آدمية واحدة منتشرة فى جميع أنحاء العالم . و يذكر اخناتون فى هذا الصدد : " أن هناك نيلا للمصريين تحت أبصارهم ، بينما هناك نيل آخر من الماء الحى فى السماء لجميع الغرباء من الأقطار الأخرى ، و للماشية التى تعيش فى كل أرض " .
و قال اخناتون إنه على ضفتى نهر الحياة فى السماء توجد قصور رحبة كثيرة ينزل الله فيها جميعا لأن قلب الإنسان هو مسكنه .
و هكذا نرى أن فجر التاريخ لم يكد يبزغ حتى قدم ملك مصر الفيلسوف الى العالم المذهب الذى هداه تفكيره و خياله اليه : أسرة انسانية واحدة و إله واحد – الأب الرحيم للجميع ، إله الحب .
و أمر اخناتون بتحطيم جميع التماثيل المقامة لآلهة المذاهب البدائية التى سبقته ، كما أغلق معابدها ، و هجر مدينة طيبة الملكية لأن اعتبرها نجسة ، و بنى لنفسه عاصمة جديدة أطلق عليها اسم " مدينة الله "
و لفترة قصيرة اذدهرت أفكار اخناتون فى هذه المدينة الجديدة و جعل منها مركزا للأدب و الفن . و لكن كهنة المذاهب القديمة حنقوا عليه لضياع ما كان يدخل لهم من بيع التمائم و التعاويذ ، فكان هلاكه على أيديهم . و هكذا لم يكن عيسى أول ضحية للصيارفة فى هياكل العالم .
و يظهر هذا العرض المقتضب للفكر المصرى – و هو أول ما سجل من فلسفة فى العالم – أقول يظهر هذا العرض حقيقة هامة : القديم إن هو الا الجديد بعينه ، و الجديد إن هو الا القديم بعينه ، و ما حكمتنا الحديثة كلها الا تكرار لحكمة المفكرين و الأنبياء القدامى .
و سنرى هذه الحقيقة تتكرر فى أشكال كثيرة مختلفة ، و فى أضواء كثيرة مختلفة أيضا ، عندما نتتبع تيار الفلسفة من منابعها الأولى حتى يومنا هذا .
|