
15-01-2014, 12:39 AM
|
 |
رئيس مجلس الادارة
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
|
|
العلمانية
ليست العلمانية مذهبا فلسفيا ، بل مذهب قانونى – سياسى بالأولى ، و لكنها غير منقطعة الصلة بالفلسفة ، لأنها فى جانبها النظرى نتاج للنظر العقلى و لأنها فى جانبها العملى تنبثق عن جملة من الممارسات و الإشكاليات التى تتصل بالعلاقة بين الدين و الدولة ، بين السلطة الروحية و السلطة الزمنية ، و بالتالى و فى التحليل الأخير بين الثيولوجيا و الانثروبولوجيا ، أى بين الالهيات و الانسانيات .
و العلمانية بالعربية لفظة مستحدثة كمقابل لكلمة Laîcite أو Laicisme بالفرنسية و كلمة Laicite مشتقة من اليونانية Lai*** و من اللاتينية المتأخرة Laicus التى تعنى العامى أو ابن الشعب أى المدنى غير المتعلم ، و ذلك فى مقابل كلمة Clere التى كانت تطلق على رجل الدين لأنه كان وحده المتعلم عمليا فى القرون الوسطى ، و أول من استحدث كلمة علمانية بالعربية هو الياس بقطر واضع المعجم الفرنسى – العربى الصادر عام 1828 ، على أن الكلمة لم تأخذ طريقها الى الانتشار الواسع الا بعد قرن و نيف من الزمن ، و قد فرضت نفسها لأول مرة على معجم عربى – عربى هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية فى مصر فى أواخر الخمسينات من القرن العشرين .
و خلافا للاعتقاد الشائع ، فإن كلمة علمانية غير مشتقة من العلم ، بل من العالم ، و على هذا فإن العلمانى هو من ينتسب الى العالم أو العالمين أى الناس ، فى مقابل الربانى المنسوب الى الرب ، و بذلك يكون الاشتقاق العربى المستحدث مطابقا للاشتقاق اليونانى – اللاتينى لكلمة Laΐs . و لكن ليس من قبيل الصدفة أن تذهب الأذهان الى العلم عند ذكر العلمانية ، فما ذلك لتشابه فى اللفظ فحسب ، بل كذلك للصفة المضمونية ، فـ العلمانى هو بالإجمال من يأخذ بالتصور العلمى للعالم فى مقابل التصور الدينى .
و أذا كانت الألفاظ تفهم بأضدادها ، فإن نقيض العلمانى هو الأكليريكى Clerical ، أى ماينتسب الى الاكليروس ، و هم طبقة رجال الدين ، أو من يناصر الإكليريكية ، و هى مذهب يقول بضرورة تدخل رجال الكهنوت فى الشئون العامة .
و استحداث لفظة العلمانية فى القرن التاسع عشر و فى سياق من الترجمة المعجمية يعنى أن المشكلة لم تكن مطروحة فى ظل الحضارة العربية الاسلامية التى مااحتاجت بالتالى الى نحت المفهوم . و الواقع أن إشكالية العلمانية هى تاريخيا إشكالية غربية ، و فى المقام الأول فرنسية . ففى فرنسا صيغ المفهوم لأول مرة ، و فى فرنسا أيضا عرف الصراع بين الدولة و الكنيسة أكثر أشكاله ضراوة ، و فى فرنسا أخيرا تطور ، عبر فلسفة الأنوار وورثتها ، فكر فلسفى معاد للدين أو لرجاله أو لكليهما معا .
و من الممكن القول إن المسيحية هى التى أعطت للعلمانية فرصة رؤية النور . فعل الرغم من أن الكنيسة مارست هيمنة شبه مطلقة على الدولة بدءا من تنصر الإمبراطور قسطنطين و على امتداد الألف سنة التى تتألف منها العصور الوسطى ، فإن المسيح يمكن أن يعد هو الزارع الأول لبذرة العلمانية عندما دها على نحو لايحتمل التباسا الى الفصل بين السلطتين الزمنية و الروحية بقوله : " أعطوا ما لقيصر لقيصر ، و لله ما لله " .
و ابتداء من عصر النهضة حدث مايشبه الإنقلاب فى العلاقة بين الكنيسة و الدولة . فبعد أن كانت الأولى هى التى تسعى باستمرار الى استتباع الثانية ، صارت الدولة ، و بخاصة من خلال المونارشيات أو الحكومات الملكية المركزية القوية ، هى التى تتطلع الى استتباع الكنيسة و ربطها بعجلة مصالحها . و مع الإنشقاق البروتستانتى الكبير ظهرت إمكانية قيام كنائس قومية ، أى كنائس مستقلة عن الزعامة المركزية البابوية و تابعة للأمير المحلى . و فى فرنسا بالذات ، و بعد الصدام الكبير فى مختتم القرن الثالث عشر بين فيليب الجميل ، ملك الفرنسيين ، و بين بونيفاسيوس الثامن ، بابا روما ، تطور فى عهد شارل السابع ثم فى عهد لويس الرابع عشر المذهب الانجليكانى و هو المذهب الذى يقر لكنيسة فلرنسا باستقلال نسبى عن الكرسى البابوى ، و لملوك فرنسا باستقلال مطلق فى المجال التشريعى الزمنى . و هكذا ما كان لفكرة فصل الدولة عن الكنيسة أن ترى النور لا فى القرن السادس عشر و لا فى القرن السابع عشر ، إذ ماكان للدولة أن تبتر نفسها بنفسها بعد أن أضحت الكنيسة عضوا من أعضائها . و فى الواقع كان لابد من إنتظار أواسط القرن الثامن عشر حتى تنفجر ، من خلال فلسفة الأنوار ، نزعة ضاربة فى عدائها للاكليريكية لا على الصعيد النظرى فحسب ، بل كذلك على الصعيد العملى من خلال الإجراءات القانونية و الاقتصادية التى اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة و السلك الكهنوتى . و من وجهة نظر فلسفية خالصة وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو المعادية للأكليريكية خير ناطقين بإسمها فى أشخاص مفكرين مشاهير من أمثال روسو ، داعية الدين الطبيعى ، و فولتير الذى نذر نفسه و فكره لمحاربة النذل ، و الموسوعيين مونتسيكو و ديدرو و دالميير الذين جعلوا من المادة مبدأ أول و من الانسان ، لا الله ، مركز الكون .
و بالمقابل ، و باستثناء مرحلة عامية باريس القصيرة الأمد ، خفت على امتداد القرن التاسع عشر ضجيج النزعة المعادية للاكليريكية . و لكن مع استقرار الجمهورية الثالثة ابتداء من عام 1879 عادت العلمانية تفرض نفسها ، و فى شكل سياسى هذه المرة . فقد باتت الغالبية فى البرلمان للعلمانيين ، و أمكن بالتالى اصدار سلسلة من القوانين وضعت حدا شبه نهائى لتدخل الكنيسة فى الشئون العامة و كفت يدها فيما يتعلق ، بوجه خاص ، بالتعليم و قانون الأحوال الشخصية ، مما استتبع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904 على أنه كان لابد من انتظار قيام الجمهورية الرابعة فى عام 1945 ليكرس الدستور الفرنسى بصورة نهائية علمانية الدولة ، أى لاطائفيتها و حيادها فى موضوع الدين .
و بالإضافة الى فرنسا فإن أسبق الدول الأوروبية الى اعلان علمانيتها كانت أسبانيا فى ظل الحكم الجمهورى بين 1868 و 1676 . أما فى أمريكا ، فعل الرغم من الطابع الليبرالى و العقلانى لإعلان استقلال الولايات المتحدة فى عام 1776 ، فإن المكسيك كانت هى السباقة الى التكريس العلنى لعلمانية الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر . كما كانت تركيا فى عهد مصطفى كمال أتاتورك هى أول دولة اسلامية تتبنى العلمانية . و بالمقابل ، فإن الدولة اليهودية الوحيدة فى العالم ، نعنى اسرائيل ، ماتزال بين سائر دول العالم أكثرها طائفية لأنها جعلت من الدين نفسه قومية و لم تتخذ لنفسها دستورا لأن أى دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية . و باستثناء الدول الاشتراكية ، فإنه يندر اليوم أن نقع على دول أو دساتير علمانية خالصة . فالقانون الأساسى لجمهورية ألمانيا الاتحادية ( الغربية ) ، و الصادر فى عام 1949 ، يؤكد مثلا أن " الشعب الألمانى واع لمسئوليته أمام الله " . و دساتير النرويج و السويد لا تبيح أن يكون رئيس الدولة غير بروتستانتى ، كما لايبيح دستور انكلترا أن يكون الملك غير انجليكانى . كذلك فإن دساتير بعض الدول العربية و الاسلامية التى أخذت بالحداثة تشترط أن يدين رئيس الدولة بدين الاسلام ، كما تنص على أن الشريعة الاسلامية هى مصدر رئيسى أو المصدر الرئيسى للتشريع ، أما سويسرا التى لاتزال تعمل بدستورها الاتحادى الصادر عام 1874 ، فلاتزال أقرب الى الغاليكانية منها الى العلمانية ، و تنتصر بالتالى لمبدأ سيطرة الدولة على الكنيسة ، بالإضافة الى قوانين يعض كانتوناتها تتضمن مواقف تمييزية ازاء بعض الطوائف أو الجمعيات الدينية ، و ذلك هو أحد الأسباب التى جعلت سويسرا تمتنع حتى الآن عن التصديق على الاعلان العالمى لحقوق الانسان ، الصادر عام 1948 . و حتى الدول الاشتراكية لايمكن أن تعتبر علمانية خالصة ، لأن قوانين بعضها تلزم الدولة أو أجهزتها بالقيام بالدعاية الالحادية ، مما يخل بمبدأ اساسى من مبادئ العلمانية ، ألا و هو حيادية الدولة فى موضوع الدين
و بالفعل ، اذا كانت العلمانية تعنى ، فى المقام الأول ، عدم كفاءة الكنيسة فى الشئون العامة و المجال الزمنى ، فإنها تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة فى المجال الروحى ، فالحرية الدينية شرط أول و مطلق ، و بانتفائه تنتفى العلمانية من أساسها . و الدولة العلمانية ليست دولة لادينية ، بل هى دولة لاطائفية . ليست هى الدولة التى تنكر الدين ، بل هى الدولة التى لاتميز دينا على دين ، و لاتقدم أبناء طائفة على أبناء طائفة أخرى ، و لاتخص بعض وظائف الدولة بأبناء طبقة بعينها دون سائر الوظائف .
هذا من الناحية القانونية ، أما من الناحية الفلسفية و المعرفية ، فإن أقصى ماتعنيه العلمانية ليس الإلحاد أو نفى وجود الله بل " تأسيس حقل معرفى مستقل عن الغيبيات و الافتراضات الإيمانية المسبقة " ، أى مستقل عن المرجعيات التى تعطى نفسها حق تنظيم العلم و تضع لحرية الفكر حدودا تتنافى مع ماهية الفكر بالذات من حيث أنه لايقبل الحد . و بكلمة واحدة ، إن العلمانية ليست نفيا للإعتقاد ، بل هى تحرير له من القيود و الإكراهات الخارجية . ولا غرو بالتالى أن يكون الفكر الدينى الحديث قد عرف فى ظل العلمانية تطورا فى العمق ما أتيح له أن يعرفه فى ظل الأنظمة الثيوقراطية . فقد استعاد الدين بعده الداخلى بعد أن كان تقلص ، فى ظل الثيوقراطيات الآفلة ، الى مجرد طقوس خارجية
|