العلمانيون المسيحيون فى الثقافة العربية
فالعلمانية المسيحية هى التى قادها رجال فكر مسيحيون قد نشأت ضمن ظروف خاصة و تلبية لحاجات نفسية و اجتماعية و سياسية مختلفة عن الحاجات و الرغبات التى ظهرت فى العلمانية الاسلامية .
صحيح أن المحيط العام كان هو نفسه ، الشرق العربى الخاضع للسلطنة العثمانية ، الا أن النظرة لهذا المحيط قد أدت الى هذا التمايز . فالفكر المسيحى كان فى أحيان كثيرة يشعر بغربته عن هذا المحيط الشامل و يرتد الى البحث عن وطن أصغر ، فكانت سوريا مثلا بالنسبة لعدد منهم الوطن الذى يقابل الامبراطورية العثمانية ، و ذلك تعبيرا عن عدم استطاعة المفكر المسيحى القبول بوطن هويته الاسلام ، و ايمانا منه بوطن يكون الولاء فيه لا للدين بل للقيم الوطنية و الاجتماعية و الانسانية . و من هنا كان الطرح القومى عنوانا كبيرا نادى به عدد كبير من العلمانيين المسيحيين كبديل عن التوجه و الطرح الدينيين .
ماهى الخلفية الفكرية التى كانت وراء طروحات العلمانيين المسيحيين ؟ كان هؤلاء فى طليعة الفئات التى استطاعت و قبل سواها من المسلمين تحقيق بعض السبق فى تحصيل العلوم . و ذلك لأسباب أهمها انتشار التعليم فى أوساطهم بفضل ما استطاعت المدارس التى أسسها المبشرون و الارساليات الأجنبية . و كان نمط التعليم فى هذه المدارس مغايرا لما كان سائدا فى المدارس الدينية الاسلامية . إذ دخلت الأساليب الحديثة ، و كان تعليم اللغات ، الفرنسية و الانكليزية حافزا كبيرا مكن هؤلاء من الاطلاع على الفكر الغربى فى مصادره الأصلية . فتعمقت بذلك الصلة بين هؤلاء المفكرين و بين آخر النظريات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التى كانت أوروبا مسرحا لها فى تلك الفترات . إلى جانب إجادة اللغة الأجنبية ، أجاد العلمانيون المسيحيون اللغة العربية اجادة جيدة . و قد ذهب العديد منهم الى اعتبار هذه اللغة وحدها ، و دون الدين ، بمثابة الرابط الذى يجمع أبناء الوطن الواحد . فكانت اللغة عندهم من أهم مقومات القومية و الوطنية . فى مقابل وطنية تركية أو عثمانية أو أفغانية أو ماسوى ذلك . لذلك نجد أن عددا من العلمانيين المسيحيين قد اتجه نحو إحياء اللغة العربية و إبراز آدابها و فنونها . فكان أن ازدادت حركة التأليف فى هذه اللغة ووضعت القواميس و دوائر المعارف و أعيد التأليف فى أبواب أدبية تبرز طواعية اللغة و جمالها ، كالتأليف فى المقامات و الشعر و قواعد اللغة . رافق هذا النظام التعليمى ، اتجاه عقلانى جديد ليس اقله الاطلاع على العلوم الحديثة من علم اجتماعى بل تجاوزوا ذلك الى العلوم الصرفة كالرياضيات و الفيزياء و الطب . و بعضهم كان طبيبا بالفعل كالشميل مثلا . و قد فرض هذا الاتجاه إدخال أساليب جديدة فى طرق التعليم بحد ذاتها . أى أن ثمة اتجاها عقلانيا و علمانيا كان قد بدأ يشق طريقه فى هذه الأوساط مستندا الى النتائج العلمية و التقنية التى افرزتها النهضة الصناعية و ما رافقها من تطور فى العلوم و المعارف و من تقدم تقنى و مهنى .
أدت هذه الخلفية الى توثيق الصلة بين المفكرين المسيحيين و الغرب . فلم يعد الغرب مخيفا بالنسبة لهم بقدر ما صار عالما يجب الأخذ بقيمه و علومه ، و لم تعد الهجرة الى الغرب عامل سلب أو إغتراب و بعد ، كما كان بالنسبة لقرنائهم من المفكرين المسلمين . بل أصبحت الهجرة حافزا للتزود بالمزيد من العلوم و الفنون . الا أنه تجدر الاشارة الى أن العلمانيين المسيحيين لم يوجهوا مطلقا دعوة للالتحاق بالغرب من الناحية السياسية ، إذ أن دعوتهم قد اقتصرت على الحرص على وطن عربى فى معظم الأحيان ، و على إدخال قيم الحضارة الغربية و طرقها العلمانية . و لعل أقصى هذا الطرح قد تمثل بوطن مستقل علمانى تفصل فيه الدولة عن الدين فصلا كليا . و قد كان شعار معظمهم الدعوة لقومية عربية يكون الرابط فيها اللغة لا الدين . و تكون القيم السائدة فيها هى القيم الانسانية العالمية ، لا القيم الدينية . من هنا توجه هذا التيار العلمانى توجها اجتماعيا انسانيا ، و لم تكن النظرة الى التراث نظرة الى العصور الاسلامية و تطوراتها ، بل نظرة الى الأدب و قيمه الخالدة ، و الى هذا التراث كحضارة لا تاريخ صنعه الاسلام فى كل أبعاده . أى أن الاسلام كان بالنسبة لهم ذلك الاسلام الحضارى ( لا الدينى ) الذى أبدع فى كل المجالات . فى الآداب و العلوم و الفنون .
كذلك فرض هذا الاتجاه العلمانى نظرة تجديدية للمجتمع ترتكز على مقومات سياسية و معرفية جديدة . فالنظرة الاصلاحية التى رأت التجديد من خلال الدين ، إن من حيث تحديثه بفتح باب الاجتهاد مثلا ، أو من خلال الاقتداء به اقتداءا تاما و بعث عصره الذهبى ، أو كتلك الدعوات السلفية ، معظم هذه الدعوات بدت للعلمانيين المسيحيين نظرات حذرة و لسببين : السبب الأول أنها قد لاتعنيهم لأنهم ليسوا مسلمين ، و بالتالى لايستطيعون المساهمة من ضمن هذا الاطار . و السبب الآخر ، لقد رأوا فى مثل هذه الدعوات توجها نحو الماضى أكثر مما هو توجه مستقبلى . و بالتالى لابد من اختيار بديل . و البديل كان اللحاق بالتقدم الأوروبى و لذلك طريق واحد هو الطريق الذى سارت به اوروبا . إن الاصلاح يوجب تخطى الجمود الفكرى الحاصل و اللحاق بحركة الأفكار التى تفجرت فى الغرب و استطاعت أن تحدث تغييرا كبيرا فى بنية المجتمع بأنظمته و قوانينه . هذا الى جانب الصناعة المتقدمة و النظام السياسى الديموقراطى المتمثل بالحكومات الدستورية التمثيلية . لقد بدت مثل هذه المقومات بمثابة وحدة لا تتجزأ ، فالتقدم سببه العلم و اكتساب أداة معرفية جديدة لابد من استعارتها من الغرب الذى يملكها . لكن هذه الاستعارة قد ظلت فى اطار الأمنية ، لقد أدرك العلمانيون المسيحيون الحاجة لهذه العلوم كسبيل للدخول فى عالم الصناعة . لكن أداة نقل هذه العلوم لم تكن متوفرة كليا ، ثم أنه لايمكن نقلها بسرعة وبقوة . فلا بد من أرضية لذلك ، و للتدليل على عمق هذه الحاجة و مدى ضرورتها أكثرت الصحف و المجلات التى كانت حامل هذه الدعوات العلمانية من الإشارة الى معنى العلم متحدثة عن ضرورته و أفردت على الدوام أبوابا تقدم فيها آخر المبتكرات و الاكتشافات العلمية بأسلوب محبب مشوق و كأنه بشرى تزف للقراء . لقد بدت النظرة الى العلوم نظرة مفعمة بالإعجاب و التقدير و محملة بأبعاد إنسانية و فلسفية أكثر مما كانت دعوة عملية قابلة للتحول الى ممارسة توضع فى متناول الجميع . لم يكن المناخ الذى أطلقت منه هذه الدعوات مناخا خاصا للعلوم منفتحا عليها . و قد ترافقت الدعوة للأخذ بالعلوم مع الدعوة لإدخال الصناعة الحديثة . فبدون الصناعة لايمكن تحقيق قفزة نوعية فى الحياة و فى العلاقات الإجتماعية . الا أن هذا الادراك كان نظريا أكثر منه عمليا . إذ أن توجيه الدعوة لإدخال الصناعة لا يكفى دون تحقيق الأرضية التحتية لذلك . و هذا مالم يكن بمقدور الحركة العلمانية أن تؤمنه . لذلك عبرت هذه الحركة عن مجرد الوعى النظرى لضرورة التكيف مع الأوضاع الجديدة دون أن تتمكن فعلا من إيجاد أوضاع جديدة . على كل إن مثل هذه الأمور هى جزء من مشروع بناء الدولة ، و لم يكن العلمانيون المسيحيون فى الدولة ، باستثناء بسيط ، حتى يعملون على تحويل هذه الأمنيات الى مشاريع .
ترافقت هذه الدعوة بشقيها النظرى فى الأخذ بالعلوم ، و العملى بالدعوة للاستفادة من الصناعة مع الدعوة السياسية التى تنسجم معها . فالواضح أن هذه الدعوات كانت منسجمة مع التيارات الفكرية الفعلية السائدة فى أوائل القرن التاسع عشر ، باتجاهاتها الليبرالية العامة ، الداعية للتخلى عن أوهام الدين و التحرر من الخوف و التبعية . و قد توجت هذه الدعوات بالالتزام بالمبادئ السياسية التى ترافقت معها . من هنا نجد أن معظم العلمانيين المسيحيين قد دعوا لاعتماد نظام حكم سياسى ليبرالى تكون الأداة التمثيلية و الطرق الديموقراطية عماده الأول . و مثل هذه الأنظمة كانت السائدة فى بلدان أوروبا و أمريكا . و يتماشى هذا النظام مع التطلعات الانسانية الليبرالية أولا ، كما ينسجم أيضا مع موقع العلمانيين الاجتماعى . إذ ان معظم العلمانيين المسيحيين كانوا من أبناء الطبقة الوسطى . و هذه النظم كانت وليدة هذه الطبقة فى أولاوبا . لذلك لم يواجهوا فى تبنيها أى حرج . هذا أولا ، ثم أن هذه النظم كانت بوعى منهم أو بدون وعى ، البديل للحكومات التوتاليتارية التى يخضعون لها ، و نقدا غير مباشر أيضا لفكرة توحيد العالمين الدينى و السياسى طبقا لمبدأ الخلافة الإسلامية . فالدعوة السياسية الليبرالية بوجهها العملى كانت تعنى الفصل بين الزمنى و بين الروحى ، بين الدين و الدولة بالشكل الذى تحقق فيه ذلك فى أوروبا إذ حلت الدولة العلمانية مكان سلطة الكنيسة و مكان نفوذ رجال الدين .
انعكست هذه الأفكار على جملة من التوجهات التى ميزت الفكر العلمانى فى تلك الفترة . و لعل أبرزها قد تمثل فى خلق تيار علمانى ينادى بالتجديد و بالتغيير فى الحياة ، لا فى محاولة إصلاح و ترميهم بعض الأخطاء السابقة . لقد أدرك المصلحون العلمانيون ضرورة إحداث تغيير شامل على المستويات كافة ، متأثرين بذلك بما تم إنجازه فى الغرب ، و لذلك بدت محاولة العلمانيين محاولة لها طابعها الانسانى الشامل ، فكان مصدرهم أفكار المتنورين الأوروبيين و علماء الاجتماع أمثال اوغست كونت و سبنسر و داروين و سواهم .
إذا كانت العلمانية فى جوهرها و منطلقاتها دعوة لفصل الدين عن الدولة ، فإن التصورات السياسية هى من أهم التصورات التى أبرزتها هذه الحركة . ففى هذا الاطار طرحت شعارات القومية كسبيل لإحياء رابط جديد بديل عن الرابط الدينى . و قد ارتبطت الدعوة القومية بفكرة الوطن و الدعوة الوطنية . صحيح أن الطهطاوى كان السباق فى ذلك ، لكن فكرة الولاء للوطن قد ظلت بالنسبة له ملازمة للولاء للدين . أما مع العلمانيين المسيحيين فقد كان الدور الأول للغة لا للدين ، و الولاء للإدارة التى يجب أن تكون منبثقة عن الأمة بشكل ديموقراطى ، هكذا أبرزت فكرة الزطن و ظهرت الدعوات القومية التى تراوحت بين الدعوة للاستقلال التام ، بل الإنسلاخ عن الدولة العثمانية ، و بين تحقيق نوع من لا مركزية إدارية تتيح للمجموعات ( أو الأقليات ) إدارة شؤونها بذاتها . لقد ظهرت الوحدة الاجتماعية بديلا عن الوحدة الطائفية ، و كان ذلك بمثابة تعزيز لفكرة الوطن كما كان من جهة ثانية مقاومة للاستبداد الحميدى . و من أبرز ممثلى هذا الاتجاه القومى نشير الى بطرس البستانى 1819 – 1893 و أديب اسحاق 1851 – 1885 و نجيب عازورى الذى ألف بالفرنسية عام 1905 و انطون سعادة و سواهم . إلا أن التيار المتأخر من جيل القوميين و فى إطار السعى لتحديد معنى القومية كان أقرب للأخذ بتعريف أوسع لهذا المفهوم . فاللغة وحدها لاتكفى لتشكل رابطا قوميا ، و إحياء التراث الأدبى و اللغوى ليس كافيا من أجل تكوين رابط قومى عريض ، لأن الجزء الأكبر من هذا التراث له طابعه الدينى المميز ، و هذا ما أدركه كل من قسطنطين زريق و ادمون رياض ، و هما من دعاة القومية العلمانية ، على أن لايشكل ذلك خروجا على الدين الاسلامى ، فالدين الاسلامى يبقى الحاضن لهذا التراث ، حتى لو جرت التفرقة بين الأمور الدينية و الأمر الزمنية فى إطار كامل من العلمنة ، يظل الدين كحضارة عاملا موحدا ، إنه الجانب الروحى و الأخلاقى للحياة السياسية ، و لا علاقة للمحتوى المذهبى بالشأن السياسى .
كذلك حملت الأفكار العلمانية أفكارا جديدة فى ميادين الاجتماع و تنظيم الحياة ، فضلا عن إضفاء طابع فلسفى شمولى يشرح تطور الكائنات الحية . تعنى بذلك الأفكار الداروينية حول نظرية النشوء و الارتقاء التى دافع عنها شبلى شميل بقوة و *** . كما دافع يضا عن الاشتراكية التى اعتبرها مذهبا اجتماعيا قائما بذاته . حتى أنه عبر عن الاشتراكية بكلمة اجتماعية و هى مايرافق العمران . و الاشتراكية هى المذهب الذى يحقق المساواة بين الناس ، و بذلك تتحقق سعادتهم . و هذا هدف فلسفى بحد ذاته . و الى جانب الشميل نذكر بفرح انطون 1871 – 1922 الذى دعا الى اعتماد العلم فى كل الأمور حتى فى مجالات التفسير الدينى ، و قد استند الى ابن رشد 1126 – 1198 ، و أثارت كتاباته ضجة حين عارضها محمد عبده . كذلك آمن أنطون بالاشتراكية و دعا اليها حتى لو استعمل ال*** ، مع أن معظم العلمانيين السابقين قد دعوا الى التدرج فى الإصلاح . كذلك ساهم جرجى زيدان 1861 – 1914 ، فى التعريف بالمذاهب الاشتراكية من الفابية الى الماركسية . على العموم لقد نادى معظم هؤلاء المصلحين بإصلاح الدولة و بإصلاحها يتساوى الجميع ، و لذلك كان الإصرار على الدوام على الطابع الدستورى و التمثيلى للدولة ، حتى تتمكن من رفع المظالم و إقامة العدل و تحقيق المساواة .
أهم العلمانيين المسيحيين أديب اسحق 1856 – 1885 ، ناصف اليازجى 1800 – 1871 ، ابراهيم اليازجى 1847 – 1906 ، بطرس البستانى 1819 – 1893 ، جرجى زيدان 1861 – 1914 ، لويس شيخو 1859 – 1927 ، عيسى اسكندر المعلوف 1969 1956 ، يعقوب صروف 1852 – 1927 ، شبلى الشميل 1860 – 1916 ، فرح أنطون 1871 – 1922 ، سليمان البستانى 1856 – 1925 ، أمين الريحانى 1876 – 1940 .
لا يقتصر وجود العلمانيين على المسيحيين وحدهم ، صحيح أنهم كانو السباقين لطرح مواضيعهم ضمن هذا الاطار العلمانى بفعل أوضاعهم الاجتماعية و بفضل اطلاعهم على الأفكار الأوروبية التى احتضنت هذا الاتجاه ، لكن الصحيح أيضا أن ثمة تيارات عريضة من العلمانيين المسلمين قد شقت طريقها وسط فكر عصر النهضة متحدية بذلك الاتجاهات المحافظة والتقليدية ، فالعلمانية فى تحديدها وجوب الفصل بين الدين والدولة مثلت بالنسبة للمسلمين اشكالية من نوع خاص ووضعتهم مباشرة تجاه السلطة المتثلة بالخلافة ، أى باتحاد الدينى مع الدنيوى ، و اتجاه المصلحين الآخرين الذين كانوا فى الغالبية من علماء الدين و يملكون السيطلرة على المؤسسات الدينية الفاعلة كالأزهر مثلا .
وسيكون الحديث عن المسلمون العلمانيون هو موضوع المشاركة القادمة