( الوقفة السادسة : أقسام الخلائق بالنسبة لقبول دعوته صلى الله عليه وسلم . )
{ قال ابن قيم الجوزية في رسالته زاد المهاجر إلى ربه :}
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعث به من الهدى في قوله صلى الله عليه وسلم : ( " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم : كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا , وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به , ومثل من ولم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " ).
فشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة , فالغيث سبب حياة الأبدان , والعلم سبب حياة القلوب . وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى : { ( أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها )} . الرعد آية 17 .
( وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث)
{ إحداها} .. أرض زكية قابلة للشرب والنبات , فإذا أصابها الغيث ارتوت , ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج .
فذلك مثل القلب الزكي الذكي , فهو يقبل العلم بذكائه , فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بذكائه , فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه .
{ والثانية }.. أرض صلبه قابلة لثبوت ما فيها وحفظه , فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع .
وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه فلا تصرف فيه ولا استنباط , بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو القسم الذي قال الني صلى الله عليه وسلم : ( " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه , ورب حامل فقه غير فقيه ") .
( فالأول) : كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء .
( والثاني ): مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب ولكنه حافظ لما يحسن التصرف والتقلب فيه .
{ والأرض الثالثة} .. أرض قاع وهو المستوي الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء .
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن أن يمسك مالا.
{ فالأول} : عالم مُعَلِّم , وداع إلى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل .
{ والثاني} : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر .
{ والثالث} : لا هذا ولا هذا فهو الذي لم يقبل هدى ولم يرفع به رأساً .
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان : قسم سعيد وقسم شقي .
( الوقفة السابعة : أصحاب السنة تحيا بهم البلاد )
{ عن الفضيل بن عياض – رحمه الله - أنه قال :} " إن لله عباداً يحيي بهم البلاد , وهم أصحاب السنة " . وقال آخر : " من ألزم نفسه آداب السنة , غمر الله قلبه بنور المعرفة , ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره , وأفعاله وأخلاقه , والتأدب بآدابه , قولاً وفعلاً ونيةً وعقداً " .
ومتى حافظ المسلم على السنة محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن , غمرته الفوائد الدينية والدنيوية . ( كما قال ابن قدامة – رحمه الله - ): " وفي إتباع السنة بركة موافقة الشرع , ورضى الرب سبحانه وتعالى , ورفع الدرجات , وراحة القلب , ودعة البدن , وترغيم الشيطان , وسلوك الصراط المستقيم ) .
( الوقفة الثامنة : أعظم الإضاعات .. إضاعة القلب والوقت : )
{ يقول ابن القيم في ( الفوائد ) :} " إن أعظم الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة : إضاعة القلب , وإضاعة الوقت ..فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة , وإضاعة الوقت من طول الأمل , فاجتماع الفساد كله في إتباع الهوى وطول الأمل , والصلاح كله في إتباع الهدى والاستعداد للقائه ".
ويقول ابن الجوزي : " على الإنسان أن يعرف شرف زمانه وقيمة وقته , وأن لا يضيع منه شيئاً إلا يقربه , وليأخذ بالأفضل فالأفضل في الأقوال والأفعال , ولتكن نيته قائمة بلا فتور , كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :( " نية المؤمن خير من عمله ")