( الوقفة التاسعة : الفرق بين المتحدث بنعم الله والفخر بها .. )
أن المتحدث بالنعمة .. مخبر عن صفات وليها ومحض جوده وإحسانه , فهو مثنٍ عليه بإظهارها والتحدث بها شاكراً له , ناشراً لجميع ما أولاه مقصوده بذلك إظهار صفات الله ومدحه والثناء , وبعث النفس على الطلب منه دون غيره وعلى محبته ورجائه فيكون راغباً إلى الله بإظهار نعمه ونشرها والتحدث بها .
وأما الفخر بالنعم .. فهو أن يستطيل بها على الناس ويريهم أنه أعز منهم وأكبر , فيركب أعناقهم ويستعبد قلوبه ويستميلها إليه بالتعظيم والخدمة . { قال النعمان بن بشير }: " إن الشيطان مصالى وفخوخاً وإن من مصاليه وفخوخه البطش بنعم الله والكبر على عباد الله والفخر بعطية الله والهون في غير ذات الله " . من كتاب الروح لابن القيم .
( الوقفة العاشرة : الفرق بين الصبر والقسوة )
أن الصبر.. خلق كسبي يتخلق به العبد , وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي , فيحبس النفس عن التسخط , واللسان عن الشكوى , والجوارح عما لا ينبغي فعله , وهو ثبات القلب على الإحكام القدرية والشرعية .
وأما القسوة .. فيبس في القلب يمنعه من الانفعال وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل , فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله .
وتحقيق هذا أن القلوب ثلاثة :
{ ( قلب قاسٍ )} غليظ بمنزلة اليد اليابسة . و{ ( قلب مائع )} رقيق جداً .
فالأول : لا ينفعل بمنزلة الحجر . والثاني : بمنزلة الماء . وكلاهما ناقص .
وأصح القلوب ( القلب الرقيق ) الصافي الصلب . فهو يرى الحق من الباطل بصفائه ويقبله . ويؤثره برقته , ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته .
وفي الأثر " القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها " وهذا القلب الزجاجي فإن الزجاجة جمعت الأوصاف الثلاثة .
وأبغض القلوب إلى الله القلب القاسي . قال تعالى : { ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله )} وقال تعالى : { ( ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة )} وقال تعالى : ({ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم )} . فذكر القلبين المنحرفين عن الاعتدال , هذا بمرضه وهذا بقسوته , وجعل إلقاء الشيطان فتنة لأصحاب هذين القلبين , ورحمة لأصحاب القلب الثالث وهو القلب الصافي الذي ميز بين إلقاء الشيطان وإلقاء الملك بصفائه وقبل الحق بإخباته ورقته , وحارب النفوس المبطلة بصلابته وقوته . فقال تعالى عقيب ذلك :{ ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم )} . من كتاب الروح لابن القيم
قال العلماء : على أصحاب القلوب القاسية أن يعالجوها بثلاثة أمور :
{ الأول }: الإقلاع عما هي عليه .. بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين .
{ الثاني} : ذكر الموت .. فيكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات .
{ الثالث} : مشاهدة المحتضرين .. فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته ما يقطع عن النفوس لذتها , ويطرد عن القلوب لذاتها .
( الوقفة الحادية عشر : أيها الإنسان من يشفيك إذا مرضت , ومن يغنيك إذا افتقرت ؟؟؟)
قال الله تعالى في سورة الشعراء آية 80 : { " وإذا مرضت فهو يشفين " }.
عجباً يا ابن آدم فنسمة هواء عابرة كفيلة بأن تنقلك من عالم الأصحاء إلى عالم المرضى . حينها ستجد نفسك تفقد حواسك تدريجياً ولو لوقت محدد .. فالزكام سينتشل حاسة الشم أولاً , ثم سيتأثر سمعك , وستقلب ناظريك يميناً وشمالاً كالمذهول .. رباه ما الذي أحالني إلى ذلك ؟
ستتمتم قائلاً : تباً لها من نسمة عابرة !!!
ستعيش يوماً أو ربما أكثر بين أكوام الأدوية , ونسيت أنها لن تغني عنك شيئاً , ولن تصل بك إلى مصاف الأصحاء إن لم يأذن المولى بذلك فهو الوحيد الذي يقدر أن يعيد لك عافيتك بعد أن سلبك إياها ..
وقال تعالى في سورة القصص آية 24 : { " رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير " }.
إلهي .. سأظل أنا ذلك الضعيف مهما بلغ بي الجبروت , ومن أنا سوى عبد يرجو رحمتك , ويبتغي تنفس رضاك , فمن لي سواك يا خالقي مهما أسبغت علي من نعمك . سأظل فقيراً .. فالفقر لك يا خالقي أصل العزة والافتخار .. فأنت المتفضل علي .. وكيف يحلو الفقر إن لم يكن إليك ؟!!
فأدم إلهي علي نعمة الفقر إلى رحمتك وعفوك ورضاك .. فالفقر لك شهد لن يتذوقه من لم يأنس بقربك .. فياليت قومي يعلمون ..