طرائف من فكاهات الشعراء في آداب الغرب للكاتب ممدوح السكاف
هذه شذراتٌ ضاحكة ومواقف محرجة ومفارقات ساخرة، ابتسمت وأنا أقرؤها مُنجَّمةً هنا وهناك في كتب أو مجلات لأنها تدلُّ على ذكاء لمَّاح وسُرعة بديهة وجواب مفحم وإصابة للهدف فدوَّنتُها على وريقات مبعثرة مع مرور الزمن، وهي عبارة عن طرائف من السيرة الذاتية لشعراء الغرب المعروفين أو المشاهير، ثم جمعتُها في هذه الأعمدة لأقدمها إلى القارئ، لعلّه -بمطالعتها- يخفف عن نفسه همَّاً نزل به وما أكثر هموم الناس، أو ضيقاً أحسَّ به وما أمرَّ ما يُقاسيه الإنسان من الضيق، ومن جانب آخر، وفي الوقت ذاته، يطّلع على الروح المرحة الفكاهية في الآداب الأوروبية وطريقة تفكيرها وتعبيرها وتأملها وفلسفتها في فن الحياة، أو فن الضحك من الحياة وعليها ومعها.
***
-1-
في تشرين الأول من عام 1940 بلغ النشاط الجوي لسلاح الطيران الألماني في أقصى مداه فوق الجزر البريطانية، وحدث أن كانت سيدة عجوز تتسلّى بشغل الإبرة في حدائق (نيوبليس) بمدينة (ستراتفورد) المدفون فيها جثمان الشاعر والمسرحي الكبير (شكسبير) في أثناء مرور أسراب الطائرات الألمانية المغيرة فوقها، فقالت لها فتاة كانت تمرُّ بالقرب منها:
-ألا تخشين يا سيدتي من إلقاء القنابل على (ستراتفورد).. هلمّي إلى الملجأ.
فأجابت العجوز بمنتهى الهدوء والرصانة واليقين:
-كلا.. لأن هتلر لن يقدم على ضرب هذه البلدة بالقنابل فهو شديد التطيُّر ويخاف أن تحل عليه اللعنة.
فسألتها الفتاة مستغربة: -أية لعنة تقصدينها..؟!
فأجابت العجوز: -ألا تذكرين بيت الشعر المحفور على قبر شكسبير: "لتحلَّ البركة على من لايمسّ هذه الأحجار بسوء، ولتقع اللعنة على من يحرّك عظامي" فلو ألقيت قنابل على (ستراتفورد) فربما تحرّكت عظام الشاعر في قبرها ووقعت اللعنة على هتلر.
ويبدو أن هتلر كان على بينة من معنى الشعر المحفور على قبر شكسبير فكانت (ستراتفورد) من المدن القلائل التي نجت من غارات سلاحه الجوي.
-2-
ومادمنا في صدد شكسبير فلنتابع الحديث إذن عنه، فقد كتب (جورج مور) الروائي الانكليزي الذائع الصيت والمعروف بتعليقاته الأدبية موضوعاً طريفاً لايخلو من الدهشة والإثارة تحدث فيها عن شهرة شكسبير التي طبقت الآفاق وجعلت منه شبه أسطورة عالمية في الذيوع والانتشار، فقاله فيه: -"في الحق أقول لكم، لقد سئم الناس وملُّوا من تكرار اسم هذا الشاعر على مسامعهم صباح مساء وبمناسبة ودون مناسبة فكم من دراسات ومقالات وتعليقات وتحقيقات وأخبار وأسرار تظهر عنه في الصحف والمجلات ولابد أن يظهر كذلك بين وقت وآخر رجلٌ من الشُّراح يزعم أنه اكتشف جديداً في شكسبير، فقد بلغ ماكتب عن أنواع القبعات وأشكالها وألوانها في مسرحيات شكسبير (45) مجلداً وعن نعال أبطاله (20) كتاباً وعن الأزهار التي ذكرها في مسرحياته (15) كتاباً، إن شكسبير نفسه لو بُعث من قبره ورأى بعينيه ما سُطّر عنه من الهراء لمات عشرين ألف ميتة كيلا يراه أو يتحدث عنه إنسان.
-3-
ولابدّ لنا قبل أن نغادر الشاعر العبقري شكسبير إلى غيره من ذكر هذه الطرفة عنه، إذ كثيراً مايتورط الأدباء الكبار في هفوات فنية وتاريخية عجيبة، ومن أشهر مثل هذه الهفوات التي وقع فيها شكسبير في مسرحيته (الملك جون) حين وصف قصف المدافع، بينما المدفع لم يخترع إلا بعد مائة وخمسين عاماً من وفاة هذا الملك.
وطرفة أخرى تدور حول شكسبير ولا علاقة له هو بها، فقد دعا أحد الانكليز صديقه الأمريكي لمشاهدة مسرحية (هاملت) على أحد مسارح لندن وبعد انتهاء الحفلة سأل الانكليزي صديقه:
-هل أعجبتك (هاملت)؟
فأجابه الأمريكي من غير مبالاة:
-لا بأس بها، ولكن يظهر أن مسرحكم الانكليزي متأخر جداً، فلقد شاهدتُ هذه المسرحية في نيويورك منذ عشر سنوات.
-4-
أما الشاعر الانكليزي الأعمى (ملتون) صاحب ملحمة (الفردوس المفقود) فقد كان مقترناً شريرة سليطة اللسان، وقد ورد ذكرها في حديث بين الشاعر و (دوق بكنغهام) وكان الدوق من الكياسة بحيث شبهها بالوردة فقال الشاعر:
-إنني لا أرى وجهاً للشبه من حيث اللون فأنا ضرير، أما من حيث الشوك فأعترف أن التشبيه صحيح لا مبالغة فيه.
ولقد سُئل الشاعر (ملتون) مرة: -لماذا يسمحون لولي العهد بأن يتولى الملك في الرابعة عشرة من عمره ولايسمحون له بالزواج قبل بلوغه الثامنة عشرة.
فأجاب ملتون على الفور: -لأن سياسة الدولة أسلس قياداً من سياسة الزوجة.
-5-
ومن (شكسبير) و (ملتون) إلى (برناردشو) أحد فلاسفة هذا العصر أو القرن العشرين وأدبائه الكبار، فمما يُروى عنه قوله إن البشر حين يحبون يسلكون سلوك الحمير.. ومرة قالت له الراقصة (ابزادورا دولكال) إنها أجمل النساء وهو أذكى الرجال وأنها لو أنجبت منه طفلاً لجمع بين جمالها وذكائه، فرفض برناردشو العرض وقال إنه يخشى أن يخرج الولد وقد جمع عقلها هي إلى جسمه هو، ومعروف أنه كان مديد القامة نحيلاً أشهب، أشهل، ذا لحية صهباء، وكان برناردشو يقول: يتحتم علينا أحياناً أن نتحدث إلى المرأة حسب درجة أنوثتها، تماماً كما ينبغي أن نتحدث إلى المجنون حسب درجة جنونه، وكان يردّد: إن الحب الأمثل هو الذي يجري عن طريق البريد، وكثيراً ماكان يقول: لايستطيع الأديب أن يخدم سيدين معاً: الفن والزوجة.. ولكنه عندما بلغ الأربعين تزوّج من فتاة ثرية هي (شارلوت بيه تونسهد) وقد كانت في منتهى الجمال وقد حضر معه إلى الكنيسة لإتمام مراسم الزواج صديقه (غراهام وولاس) المفكر المشهور وكان يمتاز بقوام وصحة وإشراق ويتزين بوردة على صدره فلما رآه القس، حسبه العريس، ونحّى برناردشو عن كرسي الزفاف، مستهيناً به لهزاله وضعفه، ثم اعتذر له عندما عرف الحقيقة وأتمَّ عقد القران.
وكان برناردشو يقول: أفضل بهجة أعرفها عندما أرى أحد الناس يقرأ أو يحمل كتاباً من مؤلفاتي.